أولى

المسؤولية الاجتماعيّة لرجال الأعمال
في زمن كورونا!

د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى التي أتحدّث فيها عن مفهوم المسؤوليّة الاجتماعية، وعندما كنت أتحدّث عنه في الماضي سواء عبر دراساتي وأبحاثي الأكاديمية أو عبر مقالاتي الصحافية كنت أركّز دائماً على المسؤولية الاجتماعية للدولة باعتبارها فريضة غائبة في غالبية المجتمعات الرأسمالية، لكن الكارثة الأكبر كانت في المجتمعات الرأسمالية التابعة والتي يشكل مجتمعنا المصريّ نموذجاً لها منذ مطلع السبعينيّات من القرن العشرين حين قرّر الرئيس السادات التخلي عن النموذج الاشتراكيّ أو نموذج التنمية المستقلة للدولة الوطنية الذي تظهر فيه بصورة جلية المسؤولية الاجتماعية للدولة، لصالح نموذج الانفتاح الاقتصادي على الغرب الرأسمالي.

 وهناك تعريفات متعدّدة لمفهوم المسؤولية الاجتماعية للدولة حيث اتُفق على أنه تبنّي سياسات واتخاذ قرارات واتباع توجهات سلوكية تستجيب لأهداف وقيم مرغوب فيها في المجتمع، وهناك من توسّع في تعريف المسؤولية الاجتماعية للدولة لتشمل المسؤولية الاقتصادية والقانونية والأخلاقية والإحسان العموميّ. وهناك مَن يوصف المسؤولية الاجتماعية للدولة بأنها دولة الرعاية الاجتماعية التي تقف في وجه تغوّل السوق المتحرّرة من كلّ القيود.

والمسؤولية الاجتماعية للدولة بحكم تعقد وتشابك مؤسّساتها يمتدّ إلى قدرة الدولة على حلّ المشاكل المترتبة على تطبيق السياسات العامة في مختلف مناحي الحياة ومواجهة المخاطر الكبرى والتهديدات الداخلية والخارجية ويمكن حصر المسؤولية الاجتماعية للدولة إجرائياً في قدرتها على إصدار القوانين والتشريعات التي تصبّ في مصلحة الغالبية المطلقة من المواطنين، وقدرتها على القيام بمشروعات يستفيد منها الجزء الأكبر من السكان وخاصة محدودي الدخل في مجالات التعليم والصحة والسكن وغيرها، وقدرتها على مواجهة الغزو الثقافي والفكري والإعلامي ومعالجة الاضطرابات الأمنية وتجاوز سياسات الحصار المفروضة عليها وحلّ الأزمات المختلفة ومواجهة العدوان العسكري على أراضيها، وقدرتها على تطوير مؤسساتها وتنمية المجتمع والاستجابة لتطلعات مواطنيها، وتبنّيها لسياسات اقتصادية مستقلة تقلل من التبعية لدول أخرى وتخفف مديونيتها الخارجية التي يرثها المواطنون على المدى الطويل، واعتمادها الشفافية في اتخاذ القرارات وقيادة السياسات العامة وتنفيذها وتقييمها في شتى أبعادها، وقدرتها على توعية المواطن بأهميّة المسؤولية الاجتماعية الفردية والاستعداد للقيام بنصيبه في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، وقدرتها على إنهاء مظاهر الفساد في مؤسّساتها الحكومية والخاصة وتعميم ثقافة المسؤولية الاجتماعية لدى رجال الأعمال وتنمية ثقافة العطاء.

ووفقاً لهذا الدور المنوط للدولة وبناءً على مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها تتحرّك الدول على الخريطة العالمية بمسافات متفاوتة بعيداً عن أو بالقرب من النموذج الذي رسمه العلماء والباحثون في مجال العلوم السياسية. وبالطبع مجتمعاتنا العربية ليست مستثناة من ذلك، وبالتالي يمكننا الحكم عليها وفقاً لقربها وبعدها عن النموذج المرسوم، لكن لا بدّ أن نضع في اعتبارنا أنّ الصياغات النظرية المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية للدولة قد صكت في سياقات الخبرة التاريخية والسياسية والاقتصادية الغربية والليبرالية على وجه الخصوص والتي تنهض على السوق الحر أو باختصار خبرة المجتمعات الرأسمالية، ومن ثم فإنّ محاولة تطبيقها على مجتمعاتنا العربية دون مراعاة الفروق الاجتماعية والبنائية والخبرة التاريخية المغايرة للمجتمعات العربية قد يوقعنا في أخطاء ومقارنات ظالمة.

ومع اجتياح أزمة كورونا للعالم شاهدنا الوجه الحضاري والإنساني للمجتمعات التي تتسع فيها دائرة المسؤولية الاجتماعية للدولة مثلما هو حال الدولة الصينية التي استطاعت السيطرة على الوباء من خلال المسؤولية الاجتماعية للدولة منفردة بعيداً عن أيّ أطراف أخرى داخل المجتمع. فالمسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه مواطنيها في هذا النموذج التنموي حتم عليها القيام بكافة الإجراءات الوقائية والعلاجية دون أن تحمّل المواطن أدنى مسؤولية أو أعباء اقتصادية فقط عليه أن يلتزم بالحجر الصحيّ في منزله من دون أن يفكر كيف سيلبّي احتياجاته الحياتية الضرورية فهناك دولة مسؤولة عن تأمين كلّ ذلك.

 وفي المقابل برز الوجه القبيح وغير الإنساني لنموذج الدولة الرأسمالية التى تخلت عن جزء كبير من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها بحجة إطلاق العنان للحرية الاقتصادية والفردية، مثلما هو حال الولايات المتحدة الأميركية، فعند اجتياح الوباء عجزت الدولة عن توفير متطلبات الوقاية فلم تجد أمامها من سبيل إلا الرأسمالية الكبيرة فطلبت منها المساعدة، لكنها بكلّ أنانية رفضت أن تستجيب. هنا وضعت الدولة في مأزق شديد فبدأت البحث في دفاترها القديمة لتخرج قانون الإنتاج الدفاعي الصادر عام 1950 والذي يجبر القطاع الخاص على تلبية الاحتياجات العامة في وقت الخطر.

أما الوضع في مجتمعاتنا التي اختارت نموذج الرأسمالية التابعة والذي أدّى إلى اتجاه الدولة للتخلي تدريجياً عن مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، في مقابل إتاحة الفرصة أمام القطاع الخاص ليتمدّد ويتوغّل ويسيطر على جزء كبير من الاقتصاد الوطني، من دون وضع أيّ تشريعات ملزمة للقطاع الخاص على تلبية الاحتياجات العامة في وقت الخطر. وعلى مدار ما يقرب من أربعة عقود تشكلت داخل المجتمع المصري مجموعة من السماسرة الذين يعملون لصالح دول المركز الرأسمالي، والذين أطلقوا على أنفسهم زوراً وبهتاناً مصطلح رجال الأعمال.

وفي كلّ الأزمات التي مرّت على المجتمع المصري وآخرها أزمة كورونا كانت الدولة الوطنية التي لا زالت تحتفظ بمخزون أخلاقيّ ومسؤولية اجتماعية تجاه مواطنيها تحاول جاهدة تسخير كافة إمكاناتها رغم محدوديتها في ظلّ نموذج تنموي رأسمالي تابع لتلبية الاحتياجات العامة للمواطنين، في الوقت الذي لم تظهر أيّ مسؤولية اجتماعية لرجال الأعمال المزعومين، بل برزت بجاحة البعض بأن يطلبوا مساعدة من الدولة، مع أنّ بحثاً بسيطاً عن الأصول الاجتماعية لهؤلاء السماسرة سيثبت أنّ ثرواتهم المتضخمة ليست نتاج تطوّر رأسمالي طبيعي بل جاءت عبر عمليات أقلّ ما يمكن أن يطلق عليها أنها مشبوهة.

 لذلك لا بدّ أن تجد الدولة صيغة لإجبار هؤلاء السماسرة على تلبية الاحتياجات العامة وقت الخطر فلسنا أقلّ من الولايات المتحدة الأميركية النموذج الأعلى للرأسمالية العالمية، وليكن تشريع يصدر فوراً لوضع هذه الأموال المشبوهة تحت تصرف الدولة لتتمكّن من القيام بمسؤوليّتها الاجتماعيّة كاملة تجاه مواطنيها في هذه الأزمة الطاحنة التي تضع الغالبية العظمى من المصريين الذين يعيشون يوماً بيوم أمام خيارين إما الموت بكورونا أو الموت جوعاً..

اللهم بلغت، اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى