أولى

آفة العقد…!

  • } لواء العريضي

في الأعوام الثلاثين الأخيرة، صعدنا على متن رحلة تطوّر لم تكن في الحسبان. من هاتفٍ سلكيّ الى جوّالٍ ذكيّ! من سماع صوتٍ خلف السماعة الى رؤية مباشرة عبر شاشة في كفّ اليد. فازدهرت وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت بيد كلّ الناس، حتى انّ فكرة حق الوصول للإنترنت باتت تطرح كحق أساسي من حقوق الإنسان بما تمثله من حرّيّة في إبداء الرأي والوصول للمعلومات.

يُقال إنّ الإنسان ابن عصره. ففي الزمن الذي يعيش فيه يكوّن فهمه للحياة ويشهد على مجرى الأحداث التي تدور حوله. ويكون هو ذاته نتاج تفاعل عوامل اجتماعية اقتصادية ونفسية. وكلما تطورت هذه العوامل تطوّر هو بنفسه. فالإنسان يعكس مكوّنات شخصيته وما تعلّمه عبر السنين بتفاعله مع بيئته بما تمثّل من أفراد وطبيعة. والتغيّر في السلوك عادةً يكون ردة فعلٍ لما فرضته عوامل الحياة عليه. نحن لا نتكلم عن سلوك الفرد بل عن سلوك الجماعة ومبادئ الأخلاق الجماعية. فلكلّ متّحد اجتماعي نفسية اجتماعية تميّزه عن غيره من المجتمعات وهي تتكوّن عبر الزمن جرّاء التفاعل الحيوي بين الإنسان وبيئته والتراكم التاريخي للأحداث ذات الطابع الجامع.

كلّ بيئة اجتماعية على سطح الأرض تتميّز بخصائص سكّانها إنْ كان من جهة الشكل واللون والبنية أو العادات والتقاليد. وتتميّز منطقتنا بأنها كانت الأولى في إرساء المفاهيم البشرية والأديان والحضارة. فما انتشر في أرجاء العالم من حضارة يُنسِبُ لنا بالفضل والنشر. فكما يقول عالم الآثار الفرنسيشارل فيرلوأنّلكل إنسان متحضّر في هذا العالم وطنان، وطنه الأمّ وسوريةففي البيئة السورية الممتدة من الفرات لسيناء تمّ إرساء الحضارة وما تشمل من أخلاق ومناقب.

إنّ الآفة التي نحن بصدد تناولها لا يبتلي بها لبنان فقط بل المنطقة كلها، وهي آفة اللامبالاة والتهكّم والمَيَعان وتحويل كلّ بليّة إلى طرفة، وفي أكثر المرّات تكون جارحة دون أدنى اهتمام بمشاعر الناس. فأصبح كلّ من يظنّ أنّ كلامه مضحك ولو كان جارحاً لا يتردّد بنشره، ثم يتحوّل من شخص ظريف الى متوحّش إذا تمّ الردّ على كلامه اللاذع بالمثل. وهذا في الكثير من المرات أدّى الى احتقان المشاعر وتأليب ناس على آخرين لحدّ الوصول الى إشكالات مخلّة بالأمن وسقوط الجرحى والضحايا.

عند كلّ تحدٍّ جديد تتدجّج وسائل التواصل الاجتماعي بالكلام التهكميّ الذي يقلب حالة الخبر من مأساوي الى طريف! لكنه في الحقيقة يذهب من مأساوي الى أشدّ مأساويةً. هذه أصبحت فلسفة النعامة الجديدة، فلا تتسمّ بغضّ النظر أو قصره بل بالهرب من الحقيقة والمسؤولية والتقليل من شأن الموضوع. حتى أصبح بثّ الدسائس والأخبار الكاذبة أمراً طبيعياً، فلا خجل فيه! والتقليل من احترام أتراب الوطن واجباً اجتماعياً، فلا عيب فيه! والتشهير والتمنين والضغينة والقدح والذم وسوء الظنّ، كلها تعابير بات الأشخاص يتنافسون لنيلها وكأنها مشرّفة ودليل رقيّ وخبرة في الحياة!

لم يعد الاحترام واجب بل التشكيك لحين ثبات العكس واجب. ماذا خسرنا من داخلنا حتى أصبحت الأخلاق ومعاملة الناس بعطفٍ وأدب غير ضرورية؟ على من نلقي اللوم؟ العالم أجمع؟ التطوّر التكنولوجي؟ الوجاهة؟ المال؟ الأديان؟ السياسة؟ ربما نجح حكّامنا بزرع الخوف من الآخر وأجبرتنا خياراتهم بالتخلّص من ذلك القلب البريء فكُسر عنفواننا ورضينا بالذلّ لنمضي. ولكن الذات لا مسؤولٌ عنها سوى صاحبها، فالإنسان يعاقب حسب أعماله لا أعمال الآخرين. فلا عاقل يؤذي إنسانا او اي مخلوقا بهدف الأذية فقط، بل عادةً ما يكون السبب حالة اجتماعية شاذّة نالت إعجاب البعض لسهولة ممارستها. وبما أن نسبة البطالة في بلادنا عالية وكل الحروب الكونية تُقام على أرضنا، فإنه من الأسهل الذهاب الى الخيارات البسيطة وصبّ الغضب الدفين على المستضعفين أو المسالمين. وهنا نعود مجدّداً الى مسألة الهرب من المسؤولية ومراكمة الأخطاء.

البطولة الحقيقية تكمن في إجبار الذات على معاملة المجتمع بأسره بمناقب الأخلاق وعدم الانجرار الى ما يقلّل من شأن أو احترام أيّ شخص، ولو أنّ الشعور بضرورة توجيه الإهانة ملحّ. والوصول لهذه المرحلة يتطلّب الكثير من العمل الجدّي والتدريب الذاتي لتحمّل الآخرين رغم اختلافهم. وإنه شيءٌ صعبٌ أن يتحَقّق في المجتمعات المكتفية اقتصادياً، فما الحال في مجتمعنا حيث كبرنا وشبح الحرب يلاحقنا، والطائفية تنخر عظامنا، والفساد طريقنا للعيش، ومن تسلّم قيادة بلادنا استعطفنا فسرقنا، والبطالة سيّدة الموقف، ومن يعمل يشعر أنّ البطالة خيار أسهل! فالوصول الى مستوى الأخلاق الذي تكلمنا عنه عملٌ جبارٌ بحقّ. لكن متى وصلنا إليه فإنه من الصعب العودة منه، إذ أنّ شعور الاطمئنان والراحة مع الذات قبل الآخرين سيأبى أن نعود.

في يومنا هذا، نحن نعكس موروثنا الاجتماعي الذي تربّينا عليه، فأهلنا قد فعلوا ما بوسعهم للمحافظة على القيم التي تميّز بيئتنا. رغم هذا التعب، ها نحن نشهد انحدار أخلاقي لا مثيل له، فمن أين أتى هذا الانحدار؟ والخطورة تكمن في الجيل القادم الذي يشهد هذا الانحدار منذ نعومة أظافره. فما مصير الأجيال القادمة اذا أصبح ما نشهده اليوم أساس مناقب الغد!

إنّ الانهيار الاقتصادي شيء لكن الأخلاقي شيء آخر ولا يوجد مبرّر له. فبالأخلاق نبني وننتصر لما فيها من قوّة. أما بزوالها فنحن نترك ثغرات لا يملؤها سوى الفتنة والضغينة فتفكّكنا من الداخل دون الحاجة لتدخّل أي عدو خارجي. ولكن دائماً الأمل يضيق دون أن يختفي، وأن نصحى اليوم، دائماً يبقى خيارنا الأفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى