الوطن

صندوق النقد خيار اقتصاديّ أم سياسيّ؟

} د. وفيق إبراهيم

 اختار لبنان السياسيّ أخيراً صندوق النقد الدولي كمهندس لمعالجة انهياره الاقتصادي على مستويي التخطيط والتمويل بالدين.

بقي أن يقنع الصندوق بهذه المهمة ليس خوفاً من تداعياتها وهو الخبير بأزمات أخطر وأعمق.

بل لضرورة أن يكون لبنان واقعاً على خط الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط باعتبار ان هذه المؤسسة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ممسوكة من السياسة الأميركية منذ عقدين تقريباً ولا تعمل إلا ضمن الجغرافيا الدولية التابعة للجيوبوليتيك الاميركي.

لذلك تبدو الحركة السابقة لهذا الصندوق في أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية واليونان وكأنها تتقمّص بشكل كامل السياسة العميقة للدولة الأميركية.

ماذا عن لبنان إذاً؟

تقع بلاد الأرز حالياً على خط الصراع الأميركي الإسرائيلي السعودي والسوري الإيراني مع أولوية للسيطرة الأميركية على لبنان السياسي والدولة، مقابل إمساك كبير للحلف السوري الإيراني بالأرض وتقدّم في التأثير على الدولة اللبنانية.

فيبدو الميدان اللبناني مفتوحاً على مصراعيه لقتال مكشوف بين القوى الداخلية، لكن ميزة هذه القوى انها تنتمي بكامل تنظيماتها الى طبقة سياسية لبنانية واحدة للسيطرة على الدولة بالدعمين الطائفي الداخلي وقوى الخارج صاحبة التأثير الأقوى في لبنان.

من ناحية أخرى، أدّى هذا الدعم الثنائي الى ولادة أكبر حركة فساد في بلد صغير بحجم لبنان له ميزة أساسية وهي أنها تشمل مؤيدي السياسات الأميركية والإيرانية والسورية على السواء مع استثناء في طليعته حزب الله الذي وضع كامل إمكاناته في الصراع مع العدو الإسرائيلي والإرهاب ملتزماً استنفاراً دائماً في رصد التحركات الإسرائيلية والإرهابية بالتعاون مع الجيش الأميركي الذي يمنع عنه الغرب الأسلحة المناسبة للتصدّي لمثل هذه الاستحقاقات.

على المستوى الاقتصادي وتجاوز لبنان الخط الأحمر بديون فاقت المئة مليار دولار وسرقة نحو 350 مليار دولار في العشرين سنة الماضية ونسبة بطالة دفعتها جائحة الكورونا الى اكثر من خمسين في المئة وصعود عمودي في مستوى الفقر من 25 في المئة الى ستين في المئة تقريباً، وعجز كامل عن سداد فوائد الديون.

للمزيد من الإنارة على الوضع الاقتصادي فإن 6 في المئة فقط من اللبنانيين يملكون ثلثي الودائع بما تعني سيطرتهم  على الاقتصاد اللبناني كاملاً وذلك مقابل 94 في المئة من اللبنانيين لا يملكون إلا ثلث هذه الودائع فقط، وهذا مؤشر للمستوى الطبقي العام في بلد كلبنان نجحت طبقته السياسية في تدمير طبقته الوسطى وذلك بالالتزام بالسياسات الأميركية التي لا تزال تصرّ حتى الآن على منع التعاملات الاقتصادية مع سورية.

بذلك يبدو الوضع اللبناني مسدوداً بكورونا تقفل تفاعلاته الداخلية، وسياسة أميركية تقطع علاقاته البرية بالعالم العربي، وعدم وجود موارد داخلية، وتوقف تحويلات المغتربين اللبنانيين نتيجة للضغوط الأميركية على المصارف بذريعة أنها تتعامل مع حزب الله.

إلا أن النقطة الأخطر التي تشل الاقتصاد اللبناني هي مسألة تحديد الوجهة الخارجية التي يستطيع لبنان التعامل معها.

هذه الوجهة كانت دائماً الغرب الأوروبي والأميركي والخليج عبر الحدود السورية.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن الانتصارات التي حققها حزب الله في الإقليم على مستويي الكيان الإسرائيلي والإرهاب لم يستعملها للدفع باتجاه علاقات اقتصادية مع إيران والصين او روسيا مثلاً.

فمجرد ملاحظته لإرباك في السلطة السياسية اللبناني من إمكانية التعامل مع هذه الطروحات التي يرفضها الأميركيون.

كان يتجاوزها ملتحقاً بالإجماع اللبناني او نائياً بنفسه من التأثير عليه وإرباكه.

لكن الوضع هذه المرة اختلف عن ذي قبل، فالاقتصاد الأميركي متراجع وسياساته الدوليّة فتقلّصه الى حدود تراجع بنيوي في الشرق الأوسط واوروبا الشرقية وآسيا، وهذا قد يتضاعف للعجز الكبير في السياسات الأميركية بالتعامل الاقتصادي مع الدول المتمحورة حولها.

هناك أيضاً التقهقر الكبير في اقتصادات دول الخليج بسبب تراجع اسعار النفط وضمور التصدير. بما يؤدي الى توقف الدعم الخليجي التقليدي لبلدان مثل لبنان والأردن والبحرين.

بذلك يخسر لبنان بسرعة تفاعلاته الاقتصادية الداخلية بسبب كورونا وتداعياتها لأعوام عدة تواصله والمدى الاميركي النسبي ونجدات الفرنسيين خصوصاً والأوروبيين عموماً.

فماذا يتبقى له وهو المحتاج الى تغطية لعامين مقبلين بالنفقات الداخلية وفوائد الديون لا سيما أن مراهناته على اكتشافات كبيرة من الغاز والنفط سقطت في بلوك رقم 4 الذي تبين أنه شحيح كالمراهنين عليه، فما يتبقى للبنان؟

اختارت حكومته صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر الفرنسي، وهما آليتان بوسعهما وقف الانهيار وتمديد أجله الى الوقت الذي يريده الأميركيون بالطبع في حين أن لبنان يحتاج الى بناء سياسات اقتصادية صاعدة تؤهله لمعالجة الانهيار وليس لتجميده في ثلاجة الأزمات الأميركية.

للإشارة فقط، فإن الاقتراحات المرتقبة لصندوق النقد الدولي تبدأ دائماً بتقليص القطاع العام. وهذا من شأنه نقل عشرات آلاف الموظفين والأساتذة والعسكريين مناستقرار فقيرالى فوضى غير مسبوقة نتيجة لتحويل الفقراء إلى كادحين.

وتبتعد سياسات هذا الصندوق عن استعادة المال المنهوب وفرض ضرائب على الرساميل الكبيرة والبحث عن موارد دائمة للاقتصاد اللبناني من خلال دعم حركة إنتاج صناعية ممكنة وزراعات واعدة وقطاع خدمات من الترانزيت والسياحة والاصطياف بإمكانه تشكيل عصب اقتصادي هام للبنان.

بذلك يبدو واضحاً ان سياسات صندوق النقد الدولي ضرورية، لكنها ليست واعدة، والحل موجود في تجميد الانهيار وفتح علاقات اقتصادية مع دولة عظمى اقتصادياً هي الصين التي تمتلك مصلحة في جعل لبنان مقراً تنطلق منهطريق الحريرالخاصة بها نحو الشرق العربي.

وهذا يتطلب أيضاً تنظيم العلاقات الاقتصادية مع سورية، فيصبح المحور الصينياللبنانيالسوري ثقلاً اقتصادياً كبيراً في الشرق الأوسط.

لكن هذا التخطيط من الأحلام في ظل سيطرة صندوق النقد الدولي على الاقتصاد اللبناني واستمرار قوى 14 آذار في الارتماء في أحضان الأميركيين مجاناً هذه المرة.

فهل يستيقظون إنقاذاً لبلدهم؟ هذا يحتاج الى دفع أعلى لموازنات القوى. وهذا من اختصاص حزب الله العامل دائماً لمصلحة بلاده على كل المستويات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى