ثقافة وفنون

طاقة المُخيّلة

 

} أمين الذيب*

إذا كانت الُّلغة كائناً حيّاً، تنمو وتتكاثر بنمو التطور الإنساني، وتتسع أبعادها باتساع المفاهيم الحضاريّة التجريبيّة المُكتسَبة، كحاجةٍ إنسانيّة للتواصل والتفاهم، وللتعبير عن الكوامن الشعوريّةالنفسيّة، بتراكيب لغويّة لا نهائيّة توائم لانهائيّة الأسئلة الوجوديّة التخيُليّة البحثيّة في فضاءات الّلامرئي لفهم المكنون الكونيّ، وإذا كانت الّلغة توليديّة كما يعتبرها تشومسكي وسواه، فماذا عن المخيّلة إذن.

هل الخيال رؤيا افتراضيّة رياضيّة، وهل يتساوق مع لانهائيّة التوالديّة الّلغويّة، أم أن طاقة المُخيّلة لا زالت تستقطب اللغة تجاوزاً للخيال السائد سعياً لاكتشافه، أم أن الخيال سابق لّلغة، فالكلامالّلغة هو بين الذات والآخر، الذات والموضوع، والخيال في مُسافرته نحو الموضوع الى الحدّ الأقصى، يبلغ حالة لا يمكن التعبير عنها بالكلام. هذا التواصل أيّ الاتصال الذي يتجاوز الظواهر المرئيّة والمحسوسة لبلوغ الّلامرئي لا يتم بالكلام وليس الكلام وسيلة له، هو نشوة الاتحاد الكليّ، صمت النشوة والانبهار، خارج القيود المؤسسيّة السائدة، التي تتعدّى كسر الحواس والمفاهيم الجامدة، (لحظة الاتحاد مع الكائن الأصليّ، تبطل فعاليّة الكلام، بمعنى العثور على الأبديّةكما يعبّر رامبو).

هذه الأبعاد القصيّة للكون، اللانهائيّة، هل لا زالت رهينة تقاليد ويقينيات ومفاهيم وقيم سائدة، أم يمكن أن نؤسس على قاعدة المعارف السابقة التي عالجت مسائل الخيال والتخيّل والتخيّيل، برؤى مُتباينة، آخذين بعين الدراسة والتمحيص والتدقيق تجارب أفلاطون وتلميذه أرسطو؛ وبالتالي المدرسة الكلاسيكيّة والمدرسة الرومانسيّة التي تناضجت في التجارب الأوروبية، خاصّة فرنسا وبريطانيا وألمانيا وسواها، أم تفرُّد المنهج الصوفي بانزياحه الفكريّ الفلسفيّ برفضه الامتثال للطقوسيّة الإيمانيّة السائدة.

وتجاوزه الظواهر الى بواطن الرؤيا، وكيف رأت المدرسة السورياليّة الى هذا الانعطاف المُتنامي في تطور الرؤى والفضاءات التي بلغتها، ومُقارنتها بالتجربة الصوفيّة على قاعدة الالتقاء والاختلاف، وكيف نرى إلى مدى تأثُّر النّقاد والفلاسفة العرب، ومدى تأثيرها على الفكر الفلسفي العربي، فإذا عملنا على نتاج إبن سينا والفارابي، وبالتالي الجرجاني والقرطاجني ومن تلاهم، نعتقد هذه التجارب الناجمة عن سياق فلسفي أرسى عناصره الفكريّة أفلاطون؛ والتي نحاول أن نبني عليها بُعداً فلسفيّاً تجاوزيّاً، بمعنى ما بعد الخيال السائد، وتحرير مفهوم الخيال من السياقات الفكريّة الفلسفيّة السابقة، لنُنجز بُعداً جديداً يُحرر الخيال ويطلقه الى مداه الأقصى بعيداً عن وظيفيّة ربطه بالمتلقي كشرط بنيويّ، ونطلق مصطلحناالخيال التوالدي، الذي يُتيح تفجُّر الّلغة بابتكار معناها الجديد لطاقة المُفردة ودلالاتها المُتعدّدة، فينتفي معناها الجامد باكتسابه أبعاداً جديدة للمفردة ذاتها، في ازدواجية العلاقة والدلالة بين المرئي المحسوس واللامرئي المُتخيّل. إن الّلغة كأسلوب تخاطب وتواصل وتفاهم بين الأفراد، الذات والآخر، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليست الّلغة ذاتها التي يُسقط فيها الخيال معارفه الوجوديّة، لذلك لا بُد من طرح سؤال، هل الّلغة أحوج للخيال منه، أم أن الخيال يحتاج الّلغة ليُعبّر عن ذاته. هذه الأسئلة سنُجيب عليها في مقالات لاحقة.

في السّياق، نستعرض بعض العناوين والرؤى للاستدلال على هويّة الأدب الوجيز التجاوزيّة.

المُخيّلة قوة حسّية باطنيّة تُمثل الأشياء في الذهن، ولغموضها لا يمكن معرفتها إلّا بأثرها، فإذا كانت حركيّة الكون لا نهائيّة فحركة الخيال حكماً لا نهائيّة، اذ لا يمكن أن نفهم أو ننظر للخيال كما فهمه أفلاطون، ولا كما فهمه أرسطو والفارابي وابن سينا أو الجرجاني والقرطاجني، أو كما طُرح في المذاهب الكلاسيكيّة والرومانسيّة.

في مُعجم لسان العرب، نجد الخيال يرتبط بالظن، أو تصوّرتُه فتصوّر لي.

في قاموس المحيط، كساء أسود يُنصب على عود، يُخيّل به للبهائم والطيور.

في مُختار الصحِّاح، الخيال: الظن والتوهّم.

في القرآن، في وصف موسى، في تفسير ابن كثيّر: يُخيّل للناظر أنها تسعى، إنما كان حيلة.

النقد المعاصر، الصورة الذهنيّة التي تدرس المادّة التي يتضمنها الخيال، لا على الخيال كطاقة ذهنيّة.

فالمُحاكاة عند أفلاطون، قابلها الفن مُحاكاة الطبيعة عند أرسطو.

سياقات متباينة في مسار الفهم المتحوّل للخيال، وهذه سياقات طبيعيّة نستعرضها فقط للدلالة على بنائيّة الأدب الوجيز الفكريّة والفلسفيّة، أيّ البناء على حركيّة التطور، لإنجاز زمن فكريّ جديد، بمنطلقاته الفكريّة التجاوزيّة للسائد، تحت عنوان ما بعد الخيال السائد، كمنصّة انطلاق الى الأماكن القصيّة، في سياق الحركيّة اللانهائيّة للكون والخيال، الذي قيل عنه إنه إنجاز الخلق الأهم واعتبره بعض المُغالين، أنه الخلق الوحيد.

إن استقصاء الأفكار والمذاهب الفلسفيّة، التي تبلورت في السياق الفلسفي التاريخي، قد يُشكّل ركائز تجاوزيّة مبنيّة على التقصّي والاستدلال الناجم عن التراكم المعرفيّ، وكيف تطوّر الفهم الإنساني، في علاقته مع المكنون والغامض والمُستتر في مسألتي الخلق والتكوين.

فإذا القينا نظرة سريعة على تطوّر الفهم الغربي لمسألة الخيال خاصّة بعد الثورة الرومانسيّة، مثلاً، الإيطالي بينيتو كروتشيه، يعتبر الخيال حالة ما بين المُحاكاة والتصوير، أمّا الأميركي وولتر كوفمان فيعتبر الخيال مجرد تصوير.

الناقد الانكليزي وردزورث، يعتبره التدفق التلقائي للمشاعر القويّة، ولا مجال للحيَل والقوانين الصناعيّة. أمّا تيلركوللريدج، فيعتبر الخيال الاوّلي، العقل المتناهي لعمليّة الخلق الخالدة في الأنا المُطلق، والخيال الثانويّ هو الذي يُحطّم ليبني من جديد.

سنتوسّع في القراءة النقديّة للسورياليّة لاحقاً، وسنسرد في هذا المقال المرتكزات الرئيسيّة التي نظّر لها مؤسسها أندرية بريتون، وسلفادور دالي، ومدى تأثّرها بنظرية فرويد التداعي الحر وتفسير الأحلام وصولاً لتحرير الخيال من المؤسسية السائدة والدفع باتجاه جمع المتناقضات، لكن فرويد اعتبر أن السورياليين لم يتجاوزوا الوعي الى اللاوعي في أعمالهم كافة، وكيف تطورت بالدادئيّة في الحرب العالميّة الأولى، وما أضاف الذين التحقوا بها، صانج غيوم وأبولونير وجاك فيتشر ورامبو وسواهم، وكيف نظروا للكتابة الآلية وتدوين الأحلام وسقاط الحواس التي تشكل موانع التحليق في المجهول اللامرئيّ، والانفتاح على الخيال حسب الديالكتيك الهيغلي والديالكتيك الماركسي.

يتبع..

*الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى