ماذا يريد الأميركيون من حكومة لبنان؟
} د. وفيق إبراهيم
رسائل أميركية بالجملة تنهمر باتجاه البريد العاجل لحكومة حسان دياب، منها بالمباشر على ألسنة سياسيين أميركيين او من خلال تصريحات لسياسيين لبنانيين تعتمد على أسلوب تقديم حلوى شهية، لكنها مسمومة المحتويات.
لماذا هذا الاستعجال الأميركي؟
يبدو أن الأميركيين في مرحلة استنفاد معظم اوراقهم في ميادين سورية التي استخدموا فيها الأدوار الخليجية والتركية والاردنية، ذاهبين الى حدود الاحتلال المباشر والغارات الاسرائيلية وكتائب من الاتحاد الأوروبي، ولم ينجحوا إلا بالسطو على النفط السوري بالتعاون مع قوات قسد الكردية وبعض زعماء العصابات والدور التركي في تصريف المسروقات.
هنا يدرك الأميركيون بعمق أن حزب الله اللبناني يشكل جزءاً بنيوياً من الانتصار السوري على مشروع تدمير دولته وضرب الارهاب المعولم، فباتوا على قناعة ان التغيير في الاتجاه التاريخي الغربي للدولة اللبنانية بات قريباً على قاعدة معاداة «اسرائيل» والانفتاح على سورية.
لكن ما يجب التأكيد عليه، ان الأميركيين البراجماتيين يعرفون بعمق استحالة نقل الدولة اللبنانية الى موقع المتصالح مع «اسرائيل» او المطبع معها على غرار مصر والاردن والسلطة الفلسطينية ومعظم الخليج والسودان والمغرب. بمعنى أن أقصى طموحاتهم هو المحافظة على الوضع الحالي عند حدود لبنان مع الكيان المحتل القائمة على تجاهل أعماله العدوانية واختراقاته البرية والبحرية والجوية، مع الاستمرار بقطع الوظيفة الاقتصادية للحدود السورية – اللبنانية وحصرها في إطار الانتقال البشري حصراً. وهذا يعني حبس الاقتصاد اللبناني الضعيف ضمن مداه الوطني المبعثر طائفياً والفقير.
لذلك يبدأ الأميركيون هجوماً مضاداً عبر أكثر من مسؤول في وزارة خارجيتهم. وأبرزهم ديفيد شنكر الذي لم يتورع عن مدح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والتنويه بتعاونه في تطبيق العقوبات الأميركية المصرفية على حزب الله مع إعلانه الإصرار الأميركي على الاستمرار في إقفال الحدود اللبنانية – السورية.
هذا الأمر يتطلب خطة لتطبيقه وهي ثلاثية ابتكرها الأميركيون على اساس شن غارات اسرائيلية على سورية تزعم أنها تستهدف الوجود العسكري الإيراني، ولا تفعل أكثر من إقفال الطرق بين سورية ولبنان وفي مراحل القصف فقط، بمعنى انها ليست قادرة على تحقيق التوازن مجدداً بين سورية وحلفائها من جهة والأميركيين وحلفائهم الإرهابيين من جهة ثانية.
فالنصر مصنوع بدماء عشرات آلاف الشهداء ونجاح سورية مع حلفائها في حزب الله وروسيا وايران في استعادة نحو 70 في المئة من أراضيها بما يعني استحالة إعادة الزمن الى العام 2011 عندما كان الإرهاب المدعوم أميركياً وتركياً وخليجياً هو المسيطر على 75 في المئة من سورية.
أما الجزء الثاني من الخطة فهو الاستثمار في صندوق النقد الدولي الذي بدأت مشاوراته مع الحكومة اللبنانية لوضع برنامج لاحتواء الانهيار الاقتصادي في لبنان.
هذا الجزء لا تجب الاستهانة به أبداً خصوصاً مع حكومة بلد مفلس يندفع بسرعة قطار نحو انهيار كبير يهدّد الدولة الكيان.
كما أنه لا يمتلك بدائل فورية حتى لخفض زخم التدحرج، فكيف تستطيع حكومة حسان دياب إقرار شروط عادلة مع صندوق النقد وهي المتكئة على طبقة سياسية طائفية لا تقبل بالتنازل حتى عن جزء بسيط من مسروقاتها من المال العام والأراضي البحرية والبرية المصادرة حتى إشعار غير معروف.
فهل يجهل صندوق النقد هذه المعطيات وسط علاقاته العميقة بالأميركيين والأوروبيّين أي مموليه الأساسيّين؟
الإفلاس اللبناني وشروط صندوق النقد الدولي والغارات الإسرائيلية على سورية هي من الوسائل الداعمة للسياسات الأميركية في لبنان.
لكن الأميركيين يحتاجون الى تغطية داخلية لبنانية لخطتهم تحتاج الى تسويق إعلامي له بعد وطني في ظاهره وحاجة أميركية اساسية في داخله.
هذا الجزء كان يمكن ان يؤديه الوزير السابق وليد جنبلاط او رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، لكن الأميركيين فضلوا حزب القوات اللبنانية غير المهموم حالياً بمشاكل داخلية او خارجية على غرار الحريري وجنبلاط، ولديه علاقات تاريخية عميقة مع «اسرائيل» أكثر من الفريقين الآخرين، لا تزال مستمرة بالتنسيق السياسي عبر الأميركيين.
لقد بدا أن هناك حرصاً «قواتياً» على تلبية ما يريده المعلم الأميركي انما في اطار طرح تناول موضوع شائك يستحوذ على اهتمامات اللبنانيين.
فكانت مسألة تهريب المازوت المدعوم من الدولة اللبنانية وبعض السلع الأخرى الى سورية، القضية التي أعطاها نائب القوات زياد حواط مؤتمراً صحافياً لساعات عدة اتهم فيها الدولة السورية وحزب الله بمساعدة المهربين، معتبراً أن الجيش عاجز عن الإمساك بالحدود، فلم يجد غضاضة بطلب نشر قوات دولية على طول الحدود تشكل جزءاً من القرار الدولي 1701 التي قضى بنشر قوات دولية على الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلة.
هذا الاقتراح ليس بريئاً كما بدا على صاحبه اثناء المؤتمر، وله خلفية واضحة تتعلق باستعمال حجة التهريب لوقف الحركة الإقليمية لحزب الله نحو سورية وأنحاء أخرى، وكما يحتوي على إهانة كبرى للجيش اللبناني باتهامه بالضعف وعدم القدرة على ضبط الحدود.
إن الأبعاد الخبيثة لمؤتمر القوات تبدو جلية باستباقها لاحتمال وصول الحكومة الحالية الى خيار وحيد لوقف الانهيار وهو العودة الى فتح الوظيفة الاقتصادية لحدود لبنان مع سورية، فأطلقوا مسألة نشر قوات دولية لعرقلة حركة حزب الله ومسألة الانفتاح على سورية.
هناك مؤشر إضافي يؤكد على هذه الخطة الأميركية، وموجود في التصريح الأخير لامين عام الامم المتحدة انطونيو غوتيريس الذي طالب فيه بتجريد حزب الله من سلاحه وإقفال معابره نحو سورية، فاعتقد البعض ان المتكلم هو نتنياهو بقده وقديده، حتى تبين لهم انه غوتيريس الذي يترأس منظمة أمم متحدة فيها من كل الاتجاهات والدول والميول، تفرض عليه ان يكون محايداً.
اليس هذا الأمر عاملاً اضافياً يبين مدى حاجة الأميركيين الى إسناد من كل مكان حتى يوقفوا تراجعهم في سورية وبالتالي في الشرق الاوسط؟ وكيف يمكن عدم الربط بين غارات «اسرائيل» وصندوق النقد ومؤتمر القوات وتصريح غوتيريس؟
انها عناصر من خطة واحدة تؤكد التقهقر الأميركي وقبولهم بالمحافظة على الوضع الحالي اللبناني، القائم على إقفال الحدود الاقتصادية مع سورية والاستمرار بمطالبة الدول بتجريد حزب الله من سلاح يدافع به عن كل اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم وميولهم. وهنا تكمن المعجزة.