أولى

أشبعناهم شجباً واستنكاراً
وفازوا بالأرض

سعاده مصطفى أرشيد*

 

أقام الرئيس الفلسطيني محمود عباس رهانه في معركته الراهنة مع الحكومة الإسرائيلية على مجموعة من التقديرات، وبنى عليها خطابه الذي ألقاه عشية التاسع عشر من أيار الماضي وأعلن فيه أنّ منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية قد أصبحتا في حلّ من جميع الاتفاقيات والتفاهمات المعقودة مع كلّ من الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية، وبغضّ النظر عن القناعة بمدى جدية هذا الإعلان والقرارات المنبثقة عنه أو انعدام القناعة بها، فإنّ هذه الخيارات تحتاج إلى فحص واختبار، وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى أنّ تصوّرات القيادة الفلسطينية التي أسّست لخطاب الرئيس ترى أنّ نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية وتذهب باتجاه تغليب فرص جو بايدن للفوز بالرئاسة، وللدور الذي سيلعبه بني غانتس وغابي اشكنازي في معارضة عملية الضمّ، وهي رهانات ضعيفة ليس لها ما يدعمها على أرض الواقع، فلا أحد يستطيع التنبّؤ بخيارات الناخب الأميركي العادي (باستثناء جماعات الافانجليكان الذين سيدعمون دونالد ترامب)، واستطلاعات الرأي دائمة التغيّر والتبدّل عند كل حدث ولها مفاجأتها في الأيام الأخيرة السابقة للانتخابات، وحزب «أزرق أبيض» هو حزب العسكر والجنرالات الذي يؤمن بانّ السيطرة على الأغوار وأراضي المستوطنات تمثل مسألة أمن قوميّ من الدرجة الأولى.

بالطبع كان لدى الرئيس والقيادة تقديرات أخرى داعمة وذاهبة في الاتجاه ذاته، ففي زيارة وزير الخارجية الفلسطيني الأخيرة لموسكو، طلب من نظيره الروسي أن تكون روسيا حاملة للملف الفلسطيني التفاوضي مع «إسرائيل»، لكن الردّ الروسي جاء سريعاً، واضحاً ومختصراً: لا يمكن أن يحدث أي تقدّم في هذا الملف بمعزل عن واشنطن، اذهبوا إلى هناك أولاً، تلك كانت نصيحة لافروف وهي تصدر عن دولة لطالما كانت مهتمّة باستعادة مكانتها السابقة عالمياً، وبتمدّدها في شرق المتوسط وسائر المنطقة العربية. هذا التمدّد الذي سيكون حكماً على حساب الدور الأميركي، الردّ السلبي والمتحفظ من موسكو له أسبابه، منها طبيعة العلاقات الأميركيّة ـ «الإسرائيلية» وتطابق وجهات نظرهم تجاه عملية الضمّ، ومنها عدم رغبة موسكو بأن تزجّ بنفسها في هذا الملف الشائك في ظلّ تواجدها الكثيف في سورية، الذي قد يرتب عليها دفع أثمانٍ للإسرائيليّين هي في غنى عنها ومن شأنها الإضرار بعلاقتها بطهران ودمشق، ومنها ما تختزنه الدبلوماسية الروسية من خبرات وتجارب مع العالم العربي منذ أيام الاتحاد السوفياتي، التي ترى أنّ العلاقة ليست استراتيجية فهؤلاء يريدون مخاطبة واشنطن من خلال استعمالهم موسكو كمحطة ومنصة ليس إلا، فيما واشنطن هي مربط خيولهم ومحطتهم النهائيّة. يُضاف إلى كلّ ما تقدّم أنّ الانخراط الروسي في الأزمة السورية جعل من روسيا راغبة أو مضطرة لعقد بروتوكولات واتفاقات مع تل أبيب تضمن عدم الاشتباك بينهما، فهما وإنْ تصارعتا في السياسة أو اختلفتا في الرؤى، إلا أنّ صراعهما ليس صراعاً وجودياً، وهوامش التفاهم واللقاء بينهما متسعة، من هنا تتضح حدود الموقف الروسي الذي قاد سوء التقدير للبناء عليه: روسيا تحذّر من عملية الضمّ لأنها قد تدخل المنطقة في دوامة عنف وتدعو جميع الأطراف (بمن فيهم شركاؤنا الإسرائيليون) إلى تجنّب الخطوات التي قد تؤجّج العنف وتحول دون تهيئة الأجواء لمفاوضات مباشرة، وتؤكد استعدادها للعمل والمساعدة في استئناف المفاوضات باعتبارها عضواً في الرباعية الدولية .

راهن الرئيس الفلسطيني على أوروبا التي هي أصل البلاء، وقد ذكرها في خطابه بالنص، حيث قال إنه يتوقع منها موقفاً حاسماً يحول دون إقدام الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ الضمّ، كما يتوقع بمن لم يعترف بدولة فلسطين أن يسارع بالاعتراف. أوروبا العجوز لم تعد تملك القدرة والحيوية وقد تكشفت قدراتها إثر تفشي وباء كورونا، فبدت هشة، مرتبكة، منقسمة كلّ دولة تبحث عن خلاصها في معزل عن الاتحاد الأوروبي، انجلترا صاحبة المدرسة العريقة في السياسة والاقتصاد والتي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها وأساطيلها وعساكرها، أصبح رئيس وزرائها الأسبق، يتلقى الرشا من موظفين وضباط أمن في مستعمراتها السابقة، فيما فرنسا بلد القوانين والدساتير والأنوار، يقبل رئيسها العمل في خدمة رجل أعمال ورئيس وزراء إحدى مستعمراتها السابقة فيما يقبض خلفه في الرئاسة الأموال من العقيد الراحل القذافي. ألمانيا التي تخلت عن شركائها في الاتحاد خلال أزمة كورونا لن يتجاوز موقفها الإدانة والشجب .

منذ أيام اختتم اجتماع دول الاتحاد الأوروبي وقد ورد في بيانه أنّ ضمّ الأغوار وأراضٍ في الضفة الغربية مخالف للقانون الدولي، وأنّ حلّ الدولتين هو الحل الأمثل للصراع، وأن الاتحاد يسعى للتعاون مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة وإلى الحوار مع الولايات المتحدة والدول العربية حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، فيما اجتمع بعض سفراء دول الاتحاد عبر الفيديو كونفرنس مع نائبة رئيس قسم أوروبا في وزارة الخارجية الإسرائيلية آنا ازاراي، وأبلغوها قلق حكوماتهم من الخطوة الإسرائيلية، لكن السيدة ازاراي لم تقلق لقلقهم لا هي ولا وزاراتها. هذه هي حدود الموقف الأوروبي.

الموقف العربي لم يخرج عن هذا الإطار، فلكلّ من العرب همومه، وكما كشفت أزمة الكورونا هشاشة الموقف الأوروبي، نراها فعلت ما يفوق ذلك في كشف الموقف العربي، بالطبع مع الانهيار في أسعار البترول ولجوء دول البترودولار لتخفيض نفقاتها وما قد يتبع ذلك من انهيارات وتداعيات، الموقف الأكثر لفتاً للانتباه هو موقف العاهل الأردني الملك عبد الله، والذي جاء في تصريحاته لمجلة دير شبيغل الألمانيّة، محذراً الإسرائيليين من خطوة الضمّ وملوّحاً بقرارات ومواقف حادّة، وقد جاء ذلك بعد مكالمة هاتفيّة بينه وبين الرئيس الأميركي. افترض الأردن إثر توقيع اتفاقية وادي عربة أنه قد ضمن وجود الأردن كوطن نهائي للأردنيين وأنه قد ثبت حدوده الغربية، ولكن نتنياهو واليمين الإسرائيلي لا يبدو أنه مقرّ للأردن بذلك، فقد قرّر نتنياهو التخفف من أعباء وادي عربة والإبقاء على مغانمها فقط، وبالقدر الذي يفيده في الدخول في مرحلة صفقة القرن التي سترث أوسلو، فتلك الاتفاقيات (أوسلو ووادي عربة) قد استنفدت وظيفتها، ثم أنها من تركة حزب العمل المنقرض، وقادته الذين يريد أن يخرجهم اليمين من التاريخ كما أخرج أولهم من عالم الحياة (إسحاق رابين) وطرد ثانيهم (شمعون بيريس) من عالم السياسة .

إذا كانت تلك تقديرات القيادة الفلسطينية التي بُني على مقتضاها الردّ الفلسطيني الوارد في خطاب الرئيس، فإنّ ذلك أمراً لا يدعو للتفاؤل، ويؤشر باتجاه مجموعة من المسائل أولاها هي في قصور الرؤى والتقديرات، وغلبة التفكير بالأماني ومحاولة إسقاطها على واقع غير مطابق لتلك التمنيات، وثانيها أنّ قيادة السلطة لم تستحوط لهذا الأمر ولم تعدّ له عدّته، فلم يكن لديها الخطة «ب» البديلة، والثالثة أنّ الحال الفلسطيني والعربي والدولي لن يستطيع أن يقدّم دعماً للفلسطيني لا سياسي ولا مالي لتستطيع أن تقوم بأود الشعب الفلسطيني، فوقفة عز ورجال الأعمال القائمين عليها قدّموا مبالغ زهيدة لا تقارَن بثرواتهم وما يجنونه من أرباح وبما هو أقلّ من عشرين مليون دولار أميركي، جزء منها تمّ خصمه من رواتب موظفيهم دون استشارتهم وهي ستخصم من ضرائبهم، وقد تردّد كثير من الحديث عن الطريقة غير الموفقة التي تمّ بها صرف بعض تلك الأموال، والعالم العربي النفطي يخفض نفقاته ومصروفاته بشكل كبير ويعاني من تراجع مداخيله النفطية والاستثمارية الأخرى، والعالم لديه من مشاكل الكساد والوباء واللاجئين والبطالة ما يكفيه، وبالتالي لن تجد السلطة من مورد يبقيها على أجهزة الإنعاش، إلا ما يأتي به عمال المياومة العاملين في الداخل، أو في المستوطنات الإسرائيلية، أو ما تجود به الحكومة الإسرائيلية من قروض، فتلك الحكومة ترى ضرورة إضعاف السلطة والمسّ من هيبتها ولكن مع بقائها مترنحة، هذا الحال يجعل من أيّ فعل إسرائيلي يمرّ بسهولة بما في ذلك عملية ضمّ الأغوار والمستوطنات وما هو أكثر من ذلك، ويجعل من السلطة الفلسطينية تتراجع عن تهديداتها، ربما سراً في البداية ولكن علناً في مرحلة لاحقة مبرّرة ذلك بضرورات الاستمرار والبقاء، إذ ما يهمّ الإسرائيلي هو الأفعال لا الأقوال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسيّ فلسطيني مقيم في جنينفلسطين المحتلة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى