الوطن

«خيال الصحرا» وخيال الوطن بين الحقيقة والوهم

} علي بدر الدين

استعارت كتلة المستقبل النيابية اتهام رئيس مجلس النواب نبيه بري للحكومة والمجلس النيابي عام 2014 بأنهما تحوّلا إلى «خيال صحرا»، وذلك بتحذيرها من تحويل الرئاسة الثالثة الى وظيفة هذا الخيال الذي لا حول له ولا قوة ولا قرار، في تصويب مباشر على رئيس الحكومة حسان دياب من دون أن تسمّيه، وكـ «شاهد ما شفش حاجة» كما يقول عنوان إحدى مسرحيات الفنان المصري الكبير عادل إمام.

هذا التحذير المبطّن والمقنّع هو بمثابة اتهام مباشر لرئيس الحكومة بالتقصير وبالتخلي عن مسؤولياته وإضعافه لموقع رئاسة الحكومة الذي باعتقاد الكتلة أنه كان قوياً ومُصاناً وله مكانته وهيبته في ظلّ رؤساء الحكومات السابقين، لكنه فقد هذه المكانة حين تسلّم رئاسة الحكومة الدكتور سليم الحص وحالياً الدكتور حسان دياب من دون أن تعدّد الكتلة الإنجازات التي حققتها حكوماتها المتعاقبة منذ اتفاق الطائف والتي هي ما يعانيه لبنان وشعبه اليوم من انهيار اقتصادي وإفلاس مالي وديون متراكمة وأزمات اجتماعية ومعيشية خانقة ولدت الفقر والجوع والبطالة حيث المتوقع وفق الدراسات ان يصل عدد العاطلين من العمل إلى ما يقارب المليون مواطن مع نهاية هذا العام. وأدّى نهج الفساد والمحاصصة والمصالح الخاصة والترويكا والتحالفات الغريبة والعجيبة وقوانين الانتخاب ونهب المال العام والخاص وتعطيل المؤسسات ومصادرتها والكثير من الإنجازات التي تحققت لمصلحة الطبقة السياسية الحاكمة وليس لمصلحة الوطن والشعب والمؤسّسات وتداعياتها ترمي بثقلها على الدولة والمواطن الذي يصرخ ويئنّ من الوجع المسكون فيه من دون ان يسمعه المسؤولون في الحكومة أو السلطة او من يدّعي انه الى جانبه ليبلسم وجعه وينقل صوته ويعيد له حقوقه المصادرة والمسلوبة من أكثر من جهة أو فريق سياسي والكل ّيتهرّب ويتنصّل من فعلته الشنيعة.

وهذا لا يعني ان الحكومة الحالية سوف «تشيل الزير من البير»، وهي في وضع لا تحسد عليه حيث التصويب عليها يأتي من كلّ حدب وصوب وقد تحوّلت إلى مكسر عصا أو لفشة الخلق، وهي بطبيعة الحال تتحمّل بعض المسؤولية لأنها لم تقطع رأس القط من البداية وقلّدت السلحفاة في مسيرتها فيما هي تدرك أنّ الحلّ لا يكون بالمسايرة والمجاملات وإعطاء الحق لغير مستحقيه، حتى تورّطت وانغمست في لعبة التحاصص والمصالح الطائفية والمذهبية والزعائمية وسياسة التراضي والخشية من ان يتحوّل المؤيدون والداعمون الى المعارضة، وأدّت هذه السياسة الإرضائية المبالغ فيها الى تجميد او تأجيل التعيينات الإدارية والمالية.

وأعتقد انّ رئيس الحكومة لم يكن موفقاً عندما أعلن في تصريح سابق له أن لا مجال للمزايدات ولا فائدة من فتح الدفاتر القديمة ولا لتصفية الحسابات، كأنه يقول «عفا الله عما مضى» وتبرئة كلّ مرتكب وفاسد وسارق وظالم، إلا إذا كان معوّلاً على أنّ بعض الجرائم لا يعاقب عليها القانون ولكن تعاقب عليها الأيام بقسوة، واسألوا الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. لكن من وكيف ومتى تعود الأموال المنهوبة والمهرّبة العامة والخاصة الى الوطن والدولة والمواطن الذي اصبح ع «الحديدة» التي ستسرق منه هي الأخرى، ومن سيعيد له حقوقه كإنسان ومن حقه أن تلبّى احتياجاته ويحافظ على كرامته وله الحق بالحرية والكهرباء والماء والطبابة والتعليم والعيش الكريم اسوة بشعوب العالم، ولا يحق للحاكم ولا للحكومة ولا لأيّ مسؤول في السلطة ان يحرم اللبنانيين من حقوقهم ولقمة عيشهم، وان يسرق ويفسد ويتسلبط لأنه يمتلك السلطة والمال والنفوذ وحق القوة، وأيّ تهاون مع هؤلاء من اي جهة مسؤولة يعني إما تواطؤاً او شراكة او خوفاً منهم أو على المنصب ومن ليس قادراً على المواجهة واسترجاع حقوق الدولة والشعب وهو في موقع يخوّله سياسياً ودستورياً وقانونياً وتشريعياً ان يمارس سلطته لتأمين العدالة الاجتماعية والمعيشية والحفاظ على حقوق اللبنانيين ومعاقبة كلّ فاسد أو سارق أو مرتكب متجاوزاً كلّ الخطوط الحمر أياً كان واضعها. ومن حق الأكفاء وأصحاب الأيدي النظيفة والتي لم تتلوّث بالفساد أن يأخذوا حقهم بالتوظيف في المواقع المتقدمة

انّ ايّ مسؤول غير مهيأ للقيام بواجباته وغير قادر على تخطي الطبقة السياسية وفسادها وتحاصصها ونفوذها الشرير عليه ان يكون جريئاً أقله في اتخاذ قرار الاستقالة والانسحاب من المسؤولية العامة مما يحفظ له ماء وجهه، وهذه الجرأة تسجّل له وليست عليه، خاصة انّ الضغوط ثقيلة والوقت ينفذ والملفات كثيرة وهذا ما يحتاج إلى رجل شرب حليب السباع ويتجرأ على اتخاذ القرار الصعب الذي ينقذ وطناً وشعباً وإذا تعذر الأمر فإنّ البلد متجه ببطء الى ما لا يحمد عقباه لأنّ المسكنات والكلام المعسول والوعود الفضفاضة بالإصلاح ومحاكمة الفاسدين باتت مجرد معزوفة سمجة ولم تعد تطرب أحداً وتحوّلت إلى كذبة كبيرة والنتيجة التوجه لاستجداء صندوق النقد الدولي وبعض الدول التي استضعفت لبنان وتستهزئ بطبقته السياسية وكأنها وقعت على فريسة دسمة على طريقة الفأرة التي تلعب وتتلهّى مع فريستها ثم عندما تستسلم وتفقد قوتها تلتهمها بغمضة عين ولا من شاف ولا من دري. وهكذا سيصيب لبنان المنهك والمنهوب والمبتلي بطبقة سياسية أكلت لحمه ورمت عظمه من دون ان يرفّ لها جفن أو حتى الاعتراف بما اقترفته، والأسوأ إصرارها على هدم اية محاولة لإنقاذ أو حلّ متواضع لأزمة أو قضية ولا تقبل ان لا تكون لها يد أو إصبع في كلّ شاردة وواردة.

وبالعودة إلى خشية كتلة المستقبل النيابية من ان تتحوّل الرئاسة الثالثة الى «خيال صحرا» فيه إساءة للفلاحين والمزارعين الذين ابدعوا وابتكروا فكرة «خيال الصحرا» لحماية حقولهم ومزروعاتهم من الحيوانات البرية والطيور التي تغزوها ليلاً وتأكلها وتتلفها، وخاصة انّ غزواتها متواصلة وتبدأ من مغيب الشمس حتى انقضاء الليل. وبما انّ الحاجة أمّ الاختراع تمّ إنتاج الخيال الذي رغم جموده وعدم حراكه فإنه أبلى البلاء الحسن وقام بواجبه ودوره على أكمل وجه، ما أتاح لصاحب الحقل والزرع ان ينام مطمئناً على رزقه من الذين تمادوا في سرقته ولا أحد يخيف الضعيف من الحيوانات والطيور وحتى البشر سوى الخيال التي هو على صورة إنسان ظالم ومستبدّ وجبار وسارق وعلى عينك يا تاجر وبوضح النهار من دون أن يخشى أحداً.

انّ «خيال الصحرا» له وظيفة موسمية نجح فيها رغم أنه مصنوع من خشب وثياب رثة لا عقل له ولا روح، لكنه كان حارساً أميناً ولم يمدّ يده على رزق من وثق به وأعطاه شرعية لمنصب ما كان ليحلم به لولا الطيور وبعض الحيوانات التي تبحث عن رزقها ومعيشتها في الظلام خوفاً من البشر الذين يستقوون على الضعفاء وهم أهداف سهلة بالنسبة لهم.

انّ «خيال الصحرا» ليست تهمة خاصة أنه حقق الغاية من وجوده، ولكن التهمة الكبيرة يجب أن توجه إلى خيالات الوطن الذين ائتمنوا عليه وعلى شعبه وحقوقه وأرزاقه ومؤسّساته وخانوا الأمانة وثقة الناس وعاثوا فيها فساداً ونهباً وتحاصصاً حتى بتنا نتعلق بقشة أو نبحث عن خيال الصحرا أو نرتمي في أحضان من يتربّص بنا السوء والشرور والانهيار طلباً للنجاة من دون طائل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى