أولى

المشهد السياسي: عالم ما بعد كورونا

 ألكسندر دوجين*

 

لكورونا طبيعة خاصة وخطرة، وأعتقد أن خطورته تكمن في أننا لم نفهم طبيعته بعد، ربما هو وباء غير قابل للعلاج ولن نتمكن من أن نتحصّن منه. كما أنه من الممكن أن يعود. وربما لن نجد قانوناً حاكماً غير عزل المجتمعات وتباعد الأفراد بعضهم عن بعض، بعد اليوم. لذا دعوني أسمّيه النهاية؛ نهاية العولمة الليبيرالية بشكلها الحالي. إذ بات على كل دولة بعد اليوم أن تحمي نفسها، أن تحمي ذاتها من مثل هذا الانهيار، وأن تجد حلاً لتحدّياتها وطريقاً خاصاً بها لبناء اقتصادها الخاص وتحقيق اكتفائها الذاتي. لذا لن نكون بعد اليوم أمام اقتصاد عالمي، بل سنكون أمام اقتصاديات إثنية ووطنية خاصة، قد تتعاون في ما بينها وقد تتنافس، إلّا أنّ صفحة الاقتصاد العالمي بنموذجه الواحدي وبشكله الذي نعرفه قد طُويَت إلى غير رجعة.

من هنا، أعتقد أنّ عالم اليوم ذاهب نحو عهد من تعدّد الأقطاب. ستكون سمة هذا العالم الخروج من دائرة الدولار والعولمة التجارية، نحو التحلّق حول الأسواق الإقليمية، والاقتصاديات المرتبطة بمسائل الهويات، والمجتمعات المحلية. سيكون الاقتصاد أكثر ارتباطاً بالاحتياجات المحلية من ارتباطه بمسائل النمو ومؤشراته العالمية. وهذا هو الاقتصاد الحقيقي الذي نقف على مشارف الولوج إليه.

لقد دخل العالم بأسره مرحلة الاقتصاد القومي الذي يرتكز على الأمة في مبناه النظريّ، والذي ينشد العدالة

الاجتماعية. وهو النموذج الذي سيكون أكثر حضوراً في المرحلة المقبلة، وهو ما سيجعل الحكومات أكثر قلقاً في سعيها لتحقيق هذا الأمر. الكثير من الأشياء تغيّرت مع كورونا، وستتالى التغييرات في مقبل الأيام.

من هنا، أعتقد أنّ الصين وروسيا وإيران، ستكون أقرب لبعضها البعض. هذا ما يمكن أن نسمّيه بخيار الضرورة بعد اليوم، حيث لن تشغل مسألة المشاركة في اقتصاد عالمي واحد بال الكثيرين. بل إنّ الأولوية اليوم باتت لعنوان واحد عريض: «يجب أن نعتمد على أنفسنا». إيران وروسيا والصين فاوضوا وعملوا بالتجارة وساوموا مرغمين من خلال قبولهم بجملة شرائط يختصرها الدولار. اليوم لم يعودوا مضطرين لهذا الخيار، لأنه لم يعُد صالحاً قط. لذا أعتقد أنّ روسيا ستمضي في اتجاه مركزة اقتصادياتها بشكل أكبر، والأمر نفسه بالنسبة لإيران والصين، وإنْ كانت الصين تواجه صعوبات أكبر بسبب الازدهار والنمو الذي حققته في الفترات السابقة، والذي اعتمد على مركب ذكي، مؤثر، وناجح، من المحلية والعالمية، وإن كان للعالمية منه نصيب أكبر.

لقد استخدمت الصين في سبيل نجاحها المركب العالمي والمَحلي بشكلّ معقد. لكنها اليوم أمام تحدي الانعطاف نحو إيلاء مسألة الاقتصاد المجتمعي المحلي الأولوية أكثر فأكثر. نجحت الصين من قبل في بناء تنمية تلحظ المسألة الداخلية. يمكننا لحاظ ذلك من خلال اهتمامها بالمسألة الصحية وارتفاع معدل أعمار الصينيين ومن خلال التنمية المجتمعية. لذا هي ستكون مدعوّة لتحديد سقف انغماسها في الاقتصاد العالمي والتركيز على البعد الداخلي أكثر فأكثر، سيؤثر ذلك على الصين واقتصادها لا شك، لكن يمكن لها الاستعاضة عن الانغماس في اقتصاد عالمي، بانغماس أكبر في اقتصاد الأوراسي.

يشكل كورونا لحظة خطرة من عمر الصين، لأنّ الصين ستكون بعده مدفوعة لتعاون أكبر مع «جيرانها» من باكستان والهند وإيران وغيرها من الدول، وذلك من أجل حفظ دينامية اقتصادها. وهذا سيعتمد بشكل رئيس على الدعم المقدّم من روسيا وإيران على مستوى الطاقة.

الأمر مختلف بالنسبة لدول أخرى مثل اليابان، فاليابان ليست قادرة على لعب دور مهمّ في الحالة الراهنة. ذلك أنها مرتبطة بشكل كلّي بالسياسات الأميركية. وهي تلعب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية دوراً محدّداً لها على مستوى السياسات الدولية. كنت أتوقّع من اليابان أن تغيّر بعضاً من سياساتها بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، من أجل تأكيد موقعها ودورها المستقل في سياسات الباسيفيك، لكن ذلك لم يحصل. وظلت اليابان قاعدة متقدّمة للولايات المتحدة، ثم تعزّز غياب السياسات اليابانية بفعل النمو الصيني. لذا لم أعد أعوّل على اليابان بقدر ما أتطلّع للصين كي تلعب دورها في الباسيفيك.

 تحوّلات عالميّة راهنة

في عالم ثنائي الأقطاب، كان هناك نظامان اجتماعيان، اشتراكي ورأسمالي، سقط الاشتراكي، واستبدل بنظام رأسمالي، وهناك بدأت العولمة. أما اليوم فها نحن نرى تصدّع العولمة. وهذا ما لم تستوعبه حكوماتنا بعد، ولم يتقبّل الكثيرون منّا بعد هذا التغيير. هكذا نرى حكومات وأنظمة لا زالت مُصرّة على فرض العقوبات والدفاع عن نموذج الاقتصاد المفتوح، وعن ضرورة إعادة إنتاج هذا النوع من المجتمعات. وكأنّ شيئاً لم يكن. لا أحد يستطيع تقدير كم أنّ هذا التغيير عميق، وكم هو أمر غير قابل للتخطئة.

من هنا، يجب علينا ألا ننزعج أبداً من العقوبات الغربية، بل يجب أن نعيد التفكير بها، وأن نعيد تأهيل اقتصادياتنا اعتماداً على مجتمعاتنا وشعوبنا. يجب علينا أن نقاطع الغرب، فالغرب انقطع عن العالم اليوم بشكل تلقائي. هو حاول فرض عقوبات على إيران وروسيا على المستويين الاقتصادي والسياسي، كما حاول التغلّب على الصين في حرب تجارية. لكن ذلك كله انتهى اليوم. علينا أن نتكامل. صحيح أننا لم نعِ بعد اللحظة التاريخية التي نعيش، كما أننا لم نعِ بعد تداعيات كورونا على النظام العالمي، لكن الأمر الأكيد أنّ عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله، وأن تكامل الصين وروسيا وإيران يجب أن يكون أكثر حضوراً اليوم، وألا يُترك هذا الأمر رهناً للظروف. إذ يمكن أن يكون فضاء هذا التكامل ضمن المجال الأوراسي، لا بالنظر إلى أوروبا وأميركا وحدها فحسب، فأميركا وأوروبا ذاهبتان لأقلمة اقتصادياتهما بشكل أو بآخر.

 صدع ما بعد كورونا

أعتقد أنّ شيئاً سيحدث في الولايات المتحدة. هذه الدولة التي تعيش إرهاصات حرب أهلية، وهواجس انتهاء العولمة بشكل خاص. إنّ انتهاء العولمة يعني انتهاء الولايات المتحدة. ولننتبه، أنّ أميركا مشاركة بشكل كبير في العولمة. لقد حاول ترامب تصحيح الأمر (وبغضّ النظر عن أنموذج خطابه) هو يحاول أن يحفظ الولايات المتحدة من ضبابية العولمة، لكن الأمر أكبر منه. ولعلّ أكبر إشكالية تواجهه اليوم هي موجة مناصري العولمة داخل الولايات المتحدة التي تواجه سياسات ترامب محاولة إفشاله. هذا قد يؤدّي إذا خسر في الانتخابات المقبلة، إلى دخول الولايات المتحدة في نوع من الحرب الأهلية. وهذا قد يعني أيضاً ضمور دور الولايات المتحدة عالمياً. ولعلّ الولايات المتحدة تعيش أصعب تحدٍّ وإشكالية تكمن في خيارها المستقبلي الواقع بين تناقض العولمة المستحيلة، ومشكلة الداخل غير القابلة للحلّ.

الأمر نفسه بالنسبة إلى أوروبا، فهي دخلت لحظة صعبة جدّاً، وقد لا تستعيد نموّها الذي كانت عليه من قبل. لم تكن تجربة الاتحاد الأوروبي ناجحة بما يكفي في مواجهة كورونا. من هنا، فإنّ أوروبا ذاهبة نحو تغيّر ما كما هو حال الجميع. لقد دمّر كورونا الاقتصاديات الأوروبية، وأجبر العالم كله على الانغلاق. إنه نوع من الكارثة التي قطعت الصّلات بين الاقتصاديات الكبرى. لذا قبل الوباء، كانت هناك «منظومة اقتصادية عالمية لا أخلاقية» مسيطراً عليها من الغرب من خلال الدولار، والمنظومة القانونية الغربية. وقد فرضت المنظومة القديمة منطق الحدود القريبة المفتوحة والتجارة الدولية، والتقسيم العالمي للعمال. تصدّع كلّ هذا النظام اليوم ولم يعد موجوداً البتّة، لكن أحداً لا يريد تصديق ذلك. الكلّ يعتقد أنها كبوة لوهلة من الوقت، أو عقبة يمكن تجاوزها، لكننا نعيش في الواقع لحظة من لحظات تدمير الاقتصاد العالمي. يمكن مقارنة ما يحصل للمنظومة الليبيرالية اليوم مع ما حصل يوم سقوط الاتحاد السوفياتي. أننا في لحظتين متشابهتين.

 تداعيات الصدع في الشرق الأوسط

لا تمتلك الولايات المتحدة رؤية إيجابية واضحة لمستقبل الشرق الأوسط. فهناك الكثير من التناقضات الداخلية في أميركا التي تمنع ذلك. لذا أعتقد أن التوتّر سيرتفع في الشرق الأوسط في الفترة المقبلة. والحلّ الوحيد لأزمات منطقة المتوسط هو خروج القوّات الأميركيّة نهائياً منه. من دون خروج الولايات المتحدة بشكل نهائي من الشرق الأوسط، لن تُحلّ القضايا العالقة في هذا الشرق. فقط في مثل هذا الظرف يمكن لنا الحلم في حلّ قضايا هذه المنطقة المعقّدة من العالم، خاصة تلك المشاكل المعقّدة الناتجة عن الهيمنة الاستعمارية، والتي تظهر في شكل دول قومية ضعيفة، وأنظمة سياسية متعثّرة، وانقسام إسلاميعلماني، وظهور أنواع من الإسلام التكفيري. هي مسائل عدة مرتبطة بشكل مباشر بالوجود الأميركي في المنطقة، لا أقول أنها ستحلّ فور الخروج الأميركي من المنطقة، لكنها بالتأكيد لن تحلّ في ظلّ الوجود الإمبريالي للولايات المتحدة هناك. وهذا ما يحتّم علينا الاستعداد لمرحلة ما بعد الخروج الأميركي، من تهيئة الظروف المناسبة للحوار السني الشيعي، والكردي العربي، والعربي التركي، والعربي الإيراني، وتحديد الأولويات والخطوط العامة، التي ستشكل التحدّي الأبرز في المرحلة المقبلة.

 

*مفكر روسيّ ومستشار سابق للرئيس بوتين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى