أولى

القائد الشهيد مصطفى شمران مثالٌ للعالم المتّصل لا المنفصل*

 د. خليل حمدان**

 

أحاول كلاماً يعتريني شحٌّ لاتّساع الرؤية لديك أيها العالم الشهيد. أخالك لمعة مفترة في زمن الجدب والقحط والظلم. أحاول الدخول الى تفاصيل عمرك من باب لا يوقعني في مهبّ الحزن فلا أعثر على غيره سيلاً إليك فتنضح عطاءً في تراثك سفراً بعد سفر، فأنت العالم المتّصل غير المنفصل عن هموم قضايا أمتك، والمحمول على أجنحة الملائكة والقدّيسين. المهاجر الى الله في ساح جهادك وتجهّد ليلك.

الشهيد مصطفى شمران واحد من الذين بذروا عمرهم على درب الفقراء والمعذّبين والمحرومين، بل العالم المهاجر الى ربّه كدحاً فملاقيه، امتشق قلمه وخطّ مسيرة علمه حتى غدا من المعروفين المشهود لهم من العلماء يشار إليه بالبنان، لكونه أثبت حضوره، حتى بات علامةً فارقةً في تفوّقه الجامعي، فنال درجة الماجستير بتقدير ممتاز في الهندسة الكهربائية من جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأميركية، فيما دفعه شغفه العلمي أن يكمل الدكتوراه في الإلكترونيات والفيزياء الحيوية بدرجة امتياز من جامعة بركلي. كلّ ذلك وهو يعمل لتأمين أودّ العيش وكلفة التعلّم لتعويض بدل منحة حجبها عنه الساڤاك بحجّة نشاطه السياسي ضدّ نظام الشاه المقبور.

ولعلّ هذا التفوّق قد يكون سمةً من سمات الشهيد القائد مصطفى شمران الذي واجه الحياة في بيئة فقيرة بكل جدّية وإصرار. حقّق النجاحات من المراحل الابتدائية في مدرسة انتصارية بالقرب من «پامنار» الى ثانوية البورز، إذ تميّز بالرقة المفرطة نحو الفقراء والمظلومين. وفي مقتبل عمره كان يواظب على الحضور في مجالس العلم والعلماء.

وإنْ كانت سيرته العلمية تشي بمستقبله الواعد، فقد شدّ رحاله يكتنز علماً وثقافة وطموحاً ووعياً، ليسلك درب العطاء مدافعاً عن المظلومين والمحرومين ومعه كلمة السر في آية طالما ردّدها قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وكانت أمنيته أن يكون تراب نعل أحذية الفقراء.

انتصر للذين أدمت قلوبهم سياط الجلّادين من زبانية شاه إيران المقبور من سافاك ومنظومة الحكم آنذاك. هاله الاعتداء على الحوزات العلمية التي تعرّضت لمجازر لم تكن آخرها مجزرة 15 خرداد عام 1963. تواصل مع المعارضين خارج إيران وداخلها، بل في بلاد الله الواسعة، تسنّم قمّة العلم. كلّ ذلك لم يحل دون أن يتدرّب في الميدان مع العديد من الطلاب الإيرانيين في الخارج. ترك مباهج الدنيا وكلّ مرتكزات حياة الدعة والرفاهية ووجهته مصر العربية، مصر عبد الناصر بحثاً عن القدرات العسكرية في معسكرات الجيش المصري ليكون على جهوزية تامّة للمساهمة الفعّالة في الميدان. وكانت وفاة الراحل عبد الناصر عام 1970 سبباً كافياً للخروج الى ميدان آخر من ميادين الكفاح والجهاد.

صحيحٌ أنّ الشهيد شمران ولد عام 1932 ولكن أرّخ بنفسه ولادة جديدة عام 1970 عندما جاء الى لبنان بدعوة من الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، ليطّلع ويستطلع آفاقاً مستقبلية جديدة. فمعرفة الشهيد بالإمام الصدر ليست مستجدّة، بل تعود الى متابعات الإمام كبارَ كوادر الثورة الإسلامية الإيرانية في الخارج، وهذا يؤكد على أنّ اللقاء ليس لقاء الصدفة. ومن هنا كان محطّ رحال الشهيد في مؤسّسة جبل عامل المهنية أواخر عام 1970 حيث يحلو له المقام، فهو المسكون بحبّ أبي ذرّ الغفاري وهو الذي صوّب في وعيه المبكر على ظلم العدوّ الصهيوني وخطره، وهو الذي يعتبر أنّ أكبر أمل عنده تحرير القدس الشريف والانتصار لقضية فلسطين وشعبها، وهو الذي عاين جرح المحرومين من الجنوب الى البقاع والضاحية وكلّ لبنان قبل أن يحلّ بينهم لكونه يختزن منظومةً معرفية وإحصائية عن أزمات المنطقة وآلامها وآمالها.

لقد بدأت مروحة حراك الدكتور الشهيد مصطفى شمران تتّسع من داخل مؤسسة جبل عامل حتى عمق المدن والقرى والدساكر، يبثّ وعياً وفكراً ليكون بجانب الإمام الصدر ومعه وخلفه في تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية أمل وحركة المحرومين، من مواقع التدريب في اليمونة وجنتا وعين البنية ودورات سريعة داخل القرى وعلى تخوم الاحتلال الصهيوني. وبدأت رحلة التواصل مع المثقّفين وعامّة الناس بطريقة منتظمة ومستمرّة على وقع ثقة الإمام السيد موسى الصدر. وإذ أسندت اليه المسؤولية التنظيمية منذ البداية، إلّا أنّ امتداد عمله لم يقتصر على التعبئة التنظيمية في حركة أمل المحرومين، بل كان يحرص ان تكتمل الصورة على المستوى العسكري والفكري والثقافي والتربوي على عين الإمام الصدر واستطاع ان يحقّق الإنجازات الكبيرة لكونه كان رجل الميدان في مواقع القتال من بلدة الطيبة وتلة ربّ ثلاثين الى تلال شلعبون ومسعود والقنطرة الى النبعة والشياح، الى البقاع الغربي، مما أدهش المراقبين ومنهم الراحل المرحوم نجل الإمام الخميني السيد أحمد (رحمة الله عليه) الذي جال على مواقع الطيبة بعد تحريرها من رجس الاحتلال الصهيوني وعملائه وحمل بندقية أمل وزار الأرض التي ارتوت بدماء شهدائها. أصبحت تضحيات أمل على كل شفّة ولسان خاصة عند رجالات الثورة الإسلامية الإيرانية داخل إيران وخارجها، وهذا ما كان ليتمّ لولا أهمية الخطوات التي اتّخذها الشهيد حتى على المستوى الإعلامي والتنسيق الميداني.

بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية كانت أسعد لحظات حياة الشهيد بسقوط الشاه الطاغية المقبور. عاد الشهيد شمران الى إيران مع اثنين وتسعين شخصيّة لبنانية من قيادات حركة أمل والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وممثلين عن مراكز إسلامية وأحزاب وشخصيات مسيحية. غادر وهو يحمل أكبر ألم معه المتمثّل بتغييب الإمام السيد موسى الصدر وأخويه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدرالدين على يد المجرم معمر القذافي المقبور. أجل هو أكبر ألم عند الشهيد شمران لأنّ الامام الصدر كان يعني له الأنموذج الحيّ وجسر التواصل مع الإمام الخميني وأركان الثورة الإسلامية الإيرانية والشعب الإيراني وباعث نهضة المقاومة في لبنان ضدّ العدوّ الصهيوني ولكنّ الدهشة أخذتنا جميعاً في الوفد عندما أعلن الإمام الراحل السيّد روح الله الموسوي الخميني انه أفضل هدية جئتم بها الى ايران، مصطفى شمران، وهذا لم يكن سهلاً على حركة غُيّب إمامها السيّد موسى الصدر. وبعد أشهر يواصل المسؤول التنظيمي نضاله وجهاده في موقعٍ آخر من مواقع الجهاد في ايران. كانت رحلة فيها الكثير من العناء والتعب خاضها الشهيد ليصنع مجداً من إمكانيات متواضعة. واستطاع أن يسجّل تقدّماً، تماماً كما حقّق الكثير في لبنان، حقّق الكثير في ايران.

في تشرين الثاني عام 1979م عُيّن الشهيد القائد وزيراً للدفاع، وفي أيار 1980 ولدى تشكيل مجلس الدفاع الأعلى عيّنه الإمام الخميني قدس سره ممثلاً له في المجلس. طلب إليه العديد من المحبّين والأصدقاء ان يترشّح لمنصب رئيس الجمهورية في إيران، الا أنه رفض مفضلاً العمل في الصفوف الأمامية للجبهة التي لم يتركها إلا شهيداً في منطقة دهلاوية في 21 حزيران 1981 م، والتحق بالرفيق الأعلى حيث كان يستحثّ الخطى، واستراح وترك أثراً طيباً حتى بات مثالاً وقدوة لنا في حركة أمل في لبنان وفي ايران، بل وفي أصقاع العالم. قال فيه الإمام الخميني قدس سره: شمران «حمزة العصر».

وفي حركة أمل كان لشهادة القائد مصطفى شمران أبلغ الأثر بقدر ما عمّ اعتزازنا بسيرته المشرّفة وأثره الطيب على التلال والوهاد وفي مؤسسة جبل عامل المهنية التي أحبّ، إلّا أنّ الحزن أخذ منا مأخذاً على رحيله يوم ذاع صيته وعلا صوته. وفي ذلك اليوم القائظ، قال الأخ الرئيس نبيه بري فيه كلاماً لكونه عايشه مدّةً طويلة، فرثاه بكلماتٍ معبّرة: «قد كان حاضراً معنا أبداً، ولكنّ صمته وتسمّر عينيه كانا يجعلانا نعتقد أنّه ذهب بأفكاره الى مكانٍ آخر، والمكان إيران. كنا نتركه قليلاً لنفسه لعلّهُ يفرّج عن اكتظاظ صدره وما يشتاقه هناك وما يحلم به هنا. كان ذلك الرجل يدهشنا، كان يرسم عالماً مضيئاً في الهواء، ونتبع نحن إشارة إصبعه وهي تنتقل بنا عبر الشرق وتصعد باتّجاه الحياة».

وأخيراً لا يستقيم الحديث عن رحلة الجهاد للشهيد شمران، من دون ذكر الشهداء الذين استشهدوا معه سواءٌ أكان في لبنان أم في إيران. وحيث كانت شهادته في دهلاوية إيران، هناك بذل أخوة لنا في حركة أمل دماءهم الطاهرة تحت عين الشهيد وبقيادته.

لا ننسى تضحيات الشهيد علي عبّاس الذي استشهد قبل أسبوع من شهادة الشهيد شمران، وعلى مقربة من مكان استشهاده، وكذلك الشهيد عبد الرضا الموسوي الذي خاض تجارب كثيرة مع الشهيد. ولا ننسى الشهيدين يوسف وعلي مرتضى اللذين جاهدا معه واستشهدا في لبنان. وكذلك الشهيد أحمد الحسن (نمر حرب)، وصادر كفل وطه حسين، الذين قضوا ومضوا وما بدلوا تبديلا.

عهدنا في حركة أمل أن نتابع لتبقى آمال الشهيد آمالنا وآلامه آلامنا كموج البحر لا نهدأ كما أرادنا الإمام السيد موسى الصدر أعاده الله وأخويه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد القائد مصطفى شمران.

**عضو هيئة الرئاسة لحركة أمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى