أولى

النسخة الأميركيّة من بوعزيزي‎ ‎وصدام الحضارات…‏

 سعاده مصطفى أرشيد _

مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ظهر النظام الثنائي القطبية كنظام عالمي، وكان لكلّ قطب من قطبيْه فلسفته وعقيدته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فقادت الولايات المتحدة القطب الغربي الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي في حين قاد الاتحاد السوفياتي القطب الشيوعي الاشتراكي الشمولي، وعلى هامشه الدول التي عانت وتضرّرت من الاستعمار القديم والسياسات الغربية، ولم تظهر إلا محاولة وحيدة جادّة لتحدي هذا النظام وهي حركة عدم الانحياز التي أرادها صانعوها قطباً ثالثاً. حاولت حركة عدم الانحياز فرض نفسها على النظام العالمي وكادت أن تنجح بفضل ما امتلك الرباعي المؤسّس من شعبية عارمة وكاريزما استثنائية، مثل أحمد سوكارنو الأندونيسي وجواهر لال نهرو الهندي وجمال عبد الناصر المصري العروبي وجوزيف تيتو اليوغسلافي، لكن حركة عدم الانحياز كانت قد ربطت مصيرها بمصائر زعمائها وشخوصهم، فسرعان ما تمّ الانقلاب على سوكارنو وتوفي نهرو ولحق به جمال عبد الناصر بعدما أثقلت حرب اليمن عليه وأثخنته هزيمة 1967 بالجراح، ومع كلّ غياب كان يغيب جزء من جسد ذلك المشروع الطموح إلى أن لم يتبقّ منه إلا هياكل بالية تعقد اجتماعات وقمماً دورية، تؤيد موقفاً هنا أو تستنكر موقفاً آخر هناك.

لكن حركة التاريخ لا تتوقف وليس للتاريخ نهاية كما افترض فرنسيس فوكوياما، وإنما هي عملية مستمرة ومتدفقة ولا تعود إلى الوراء، وكان لا بدّ للنظام العالمي أن يصل إلى مداه ونهايته، وكان الإعلان عن تلك النهاية مثيراً ودراماتيكياً بمشهد الشابات والشبان وهم يهدمون جدار برلين كأحد أهمّ رموز النظام العالمي المتداعي، وما لبثت أن لحقت بانهيار الجدار انهيارات وتداعيات طالت الاتحاد السوفياتي وفتتت وحدته، وكذلك دول القطب الشرقي برمّتها، وبما أنّ السياسة مثلها مثل الطبيعة تكره الفراغ فإنّ الولايات المتحدة كانت الأكثر جهوزيّة لتعبئته وإقامة النظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد بقيادتها، وهو ما كانت تحلم به منذ أيام الآباء الأوائل المؤسسين أمثال جورج واشنطن وبنجامين فرنكلين وتوماس جيفرسون، حتى أنها طبعت على ورقة الدولار باللغة اللاتينية NOVUS ORDO) SECONUM)  والتي تعني النظام العالمي الجديد.

أثار انهيار الاتحاد السوفياتيّ ونظام الثنائيّة القطبيّة البائد إلهام رجال السياسة والفكر في الغرب (في الجانب المنتصر) فظهرت نظريات سياسية جديدة لفلسفة النظام الأحادي القطبية كان منها نظرية نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما التي كانت الأقرب لمدرسة الحزب الديمقراطي والتي رأت أنّ التطور الإنساني قد وصل إلى نهاية مداه بالنظام الأمثل وهو الديمقراطية الليبرالية وفق النموذج الأميركي، وهذا النظام الذي لا يأتيه الباطل من يمينه أو شماله ويمثل قمة العدالة الاجتماعية ويحقق غايات الإنسان ولا يمكن التفوّق عليه والوصول إلى ما هو أفضل منه، فيما أعجب الجمهوريون الأكثر عدوانية بنظرية صدام الحضارات التي وضعها الفيلسوف السياسي صامويل هنتنغتون والتي رأت أنّ التاريخ لم ينته بعد، وأنّ على الولايات المتحدة أن تخوض صراعاً طويلاً مع ستّ حضارات محكوم عليها أن تتصادم معها، وأوّلها وأخطرها الحضارة العربيةالإسلامية. فالحضارة الغربية هي أرقى وأنبل الحضارات السبع الحية، وهي أكثرها خيراً وإنسانية وأرفعها في القيم الأخلاقية من حرية وعدالة، ثم أنّ عليها أن تنتصر على ما عداها من حضارات مختلفة وهمجية ومتخلفة.

جاءت عمليات ونشاطات تنظيم القاعدة في الوقت الأنسب لأصحاب وتلاميذ نظرية صدام الحضارات، وكان أخطرها بالطبع حادثة الحادي عشر من أيلول 2001 بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وفي وقت كان المحافظون الجدد يشغلون المناصب المهمة في إدارة الرئيس بوش الابن، وقد أدّى هذا الحادث بالطبع لإعطاء أفكارهم مزيداً من الصدفية ودفعة إضافية وازدهار شعبوي. نشأ سياسيو وفلاسفة المحافظين الجدد وتثقفوا في بداية حياتهم في مدارس اليسار الشيوعي التروتسكي وأعجبوا بنظرية تروتسكي التي شرحها في ما بعد اسحاق دويتشر (الثورة الدائمة) والتي أصبحت بفضل التطور الليبرالي الذي زاوج بين تروتسكي وهنتنغتون لتصبح الفوضى الدائمة او الفوضى الخلاقة، ومن هؤلاء ريتشارد بيرل ووولف فيتز وحاكم العراق الأميركي الشهير بول بريمر. أشعل هؤلاء العالم بحروبهم وخاصة عالم المضاد الحضاري الأول وفق نظرية الصدام الحضاري فكانت الحرب على أفغانستان والعراق.

عودة لما يجري في الولايات المتحدة إثر مصرع جورج فلويد وقد تحدّثت عنه تفصيلاً في مقالي السابق، فإنّ الأخطر أنّ الأميركي الأبيض لا يزال على عناده وإصراره ورفضه لأن يرى الحقيقة مهما بدت عارية وساطعة، ولا يبدو أنّ مصرع جورج فلويد وما أعقبه من أحداث قد غيّر من التفكير العنصري المتجذر في العقل الأميركي سواء تجاه السود أو الأقليات العرقية المخالفة باللون والثقافة للعرق الأبيض. أحداث مشابهة جاءت بعد مصرع فلويد وأزهقت أرواح سود آخرين في أكثر من ولاية أميركية وأعمال الاحتجاج وما يرافقها من عنف متبادل وفوضى تزداد يوماً بعد يوم، وها هي تأخذ أشكالاً جديدة وتحمل مطالب تتجاوز سلوك الشرطة تجاه السود والدعوة لمعاقبة الفاعل واستنكار ما حصل، لتحمل مطالب اجتماعية واقتصادية. فالولايات المتحدة بعد هذا الحادث لن تكون الولايات المتحدة التي كانت قبله، فلا بدّ لها من أن تتغيّر.

نظرية صدام الحضارات التي قتلت الشعب الأفغاني وأحرقت العراق ومزقته ثم أشعلت نيران الفوضى الخلاقة والتي يريدونها مستدامة في سورية وليبيا ولا تزال، أخذت النظرية في الأحداث التي انطلقت من مينيسوتا بعداً يبدو أنه قد غاب عن ذهن صامويل هنتنغتون، وهو أن العدالة الاجتماعية لا تتفق مع قيم الرأسمالية المتوحّشة التي يفضلون تلطيف اسمها ليكون الديمقراطية الليبرالية. هذا ما كشفته أنفاس جورج فلويد المتحشرجة، إنها بداية النهاية والتي قد تكون عملية طويلة من جولات متعددة، وهي مؤشر باتجاه التغيير الكبير كما فعل سقوط جدار برلين ذات يوم. فالصدام على قاعدة العدالة الاجتماعية قد حصل داخل قلعة الحضارة الغربية الحصينة بين الفقراء والمهمّشين من سود وأقليات وبين وحوش الصناعة والمال ومرتزقتهم وأجرائهم.

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الضفة الغربيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى