مقالات وآراء

شجاعة الاختيار

 

} لواء العريضي

ما أسهل زرع الانقسام وتبديل المواقع في بلادنا! فإذا أردت فرز جديد للرأي العام، يكفي أن تطرح أيّ موضوع أساسي يمسّ الدولة وقيامها ومبادئها. بالمجمل، كلّ فكرة تحاكي المجتمع تلاقي مؤيّدين ومعارضين ومن الصعب الإجماع على رأي عام موحّد. لذلك، بعيداً عن الاصطفافات السياسية والطائفية التي تنخر أمّتنا، والمواضيع الكثيرة التي يسهل إيجاد أكثر من ذيل انقسام حولها، يمكننا بوضوح التمييز بين نمطَي حياة يسيطران على نفوس شعبنا ومنهما تنطلق أغلب الانقسامات والاصطفافات. فالبعض يريد العيش والآخر يفضّل الحياة. فما الفارق بين هذين المصطلحين وما مدى تأثيرهما على حياتنا؟

في آخر المطاف ربما يتلاقى النمطان عند نقطة رفاهية الحياة وسلاستها. لكن شتّان بين هذا الدرب وذاك. ففي النمط الأول، الذي نطلق عليه تسمية «ثقافة العيش»، يكون الإنسان أدنى مرتبة من الحالة الفطرية التي خُلِق بها وتلازمت معه حتى وصوله لاكتشاف العيش في جماعات بدائية منذ فجر التاريخ. العيش لا يتعدّى التنفس والغذاء بغضّ النظر عن الذلّ الاجتماعي والسياسي. حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يستخدم هذا المصطلح إذ يعتبره «تحصيل حاصل»، بل يشدّد في المادة الثالثة أنّ «لكلّ فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصهفطالب العيش دائماً مسيّر يقتات من بقايا طعام «آمره».

أما النمط الثاني أيّ «ثقافة الحياة»، هو نمطٌ يتلازم مع العزّ. والعزّ هنا مقرونٌ بالحرية والإرادة الحية والكرامة وتقرير المصير، ويرتبط مباشرةً بنتيجته المحتّمة التي تزهر حياةً رغيدة ورفاهية حقيقية. يكون الإنسان فيه سيّد نفسه وأرضه دون منّة من أحد. ففي ثقافة الحياة يكون أبناء الوطن كلهم سواسية، ينعمون بالحياة الكريمة فيتحقّق الاستقرار ويزدهر الوطن. أمّا في العيش نرى فئات مرفّهة وأخرى مزدرية، وتأتي رفاهيّة الأولى على حساب الأخرى. فلا عدالة اجتماعية ولا شعور بالإخاء الوطني. لذلك من يرتضي العيش والازدهار على حساب تفقير فئة من جلدته، لا يفرٌّق بين العيش والحياة أو بين الذلّ والعزّ.

لكن للأسف وصلنا اليوم إلى الحضيض حيث «أنا أو لا أحد» فما عاد للتضحية مكان ولا للودّ خندق. فنرى فئة كبيرة من الشباب يعملون في حياتهم على قاعدة «نأتي للحياة مرّة» فلا يدركون خطورة الأنانية وما لها من تأثير سلبي على مجتمعهم ومستقبل أولادهم، هذه الجملة صحيحة في العالم الافتراضي أو في «الجنّة» ولا تنطبق على عالمنا هذا، لأنّ الحياة هنا هي مزيج روابط اجتماعية ومصالح إيجابية مشتركة. فلو عمل أجدادنا على هذه القاعدة لكانت قد فنيت البشريةّ! ترى أصحاب هذا القول لا يكنّون للتاريخ احترام، وكأنّهم أوّل من وُجِد على الأرض وما يفكرون فيه لم يأتِ على بال أحد من قبل ولم يُجرّب! تارةً فلنتماشى مع السياسة الأميركية وطوراً فلنهادن «إسرائيل» بغية العيش ووقف الحروب. وكأننا نحن المعتدين لا الضحايا، ونحن الغزاة وهم أبناء الدار، ونحن الأشرار الذين لا نرى سوى بالقتل سبيلاً وهم المسالمون! سبعون سنة من سياسة أميركية تزعزع أمن المنطقة وتدعم كيان العدو دعماً لا متناهٍ قد تناسوها وكأنّ الغرب حمل وديع ونحن سفّاحوه، وتسليم رأسنا للسفاح هو الحلّ. كلّ هذا في سبيل «العيش». هل هذه دعوة جديدة للانعزالية والمطالبة بإعلان لبنان جزيرة مستقلة تعتاش على رضى لصوص الإنسانية؟

لعلّ أفضل تشبيه يقارب الحياة والعيش هو قيادة السيارة. فإذا كنا طلّاب حياة، قد نركب سيارة متواضعة نتحكّم بوجهتها ونصل الى الأماكن التي نقرّرها نحن بوقتٍ قد يطول أحياناً. وإذا كنّا طلّاب عيش، قد نركب سيارة فخمة حصلنا عليها بالاستدانة، نتلذّذ برفاهيتها وشكلها المبهر، لكن صاحبها يمنّ علينا بوقودها من لحمنا الحي، وليس لنا أيّ سلطة على المقوَد، فتحديد الوجهة يتحكّم بها البائع دائماً، وما أسهل أن يساق بنا نحو الهاوية!

والمفارقة أننا نرى شباباً قرّر المضيّ بالطريق الصعب مضحّياً بملذّات الدنيا وحياته في سبيل مستقبل الوطن والمجتمع، وآخراً غير مستعدّ للتضحية بأتفه الأمور المعيشية في سبيل مستقبل أولاده متحجّجاً أنه شهد عشر سنين من الحروب والقهر لم تنتج له ولو فرحة واحدة! منذ طفولتنا نتعلّم أنّ طريق الفرح طويل ولا سيّما في بلادنا، نزرع اليوم لنحصد الغد، فكلّ الدول المتطورة وصلت الى حالتها اليوم بإدراك المصلحة العامة واستغرقت مئات السنين من البناء، حتى عدوّنا منهج سرقة واحتلال أرضنا على مدى قرون حتى بات العالم مقتنع أنه صاحب «الحق» في الأرض المحتلّة. لذلك طريق المقاومة والتحرير والاستقرار طريق أطول ممّا قد يبدو، وعليه تُقرّ الإرادة بالحياة وتظهر مراسم العزّ وتلذّ طعمة النصر.

ختاماً، ما هي حياتنا إلا صراع وما هو عقلنا إلا حلبة تصارع أفكاراً تقدّم مصلحة الفرد الشخصية على باقي المصالح، لكن ميزة الإنسان أنه كائن اجتماعي، ولا ينجح إلّا بنجاح مجتمعه، فلو تمكّن من العيش منفرداً لما كنّا شكّلنا روابط اجتماعية وثيقة. وإدراك الإنسان لمصلحة قومه وتعاليه عن المصلحة الفردية هو ما قاد أمماً للازدهار. فطالب الحياة ليس بمتصوّف يبغى تعذيب الذات، بل إنسان كريم يفكّر بالمصلحة الوطنية قبل مصلحته الفردية. وعلى طريقه الطويل هناك دائماً هامش راحة يلتقط به أنفاسه ويمارس هواياته ويطوّر تفكيره وطريقته في مقاربة الأمور، ضمن إطار يحافظ فيه على سلامة عقله ومجتمعه دون الحياد عن الدرب الرئيسي الذي رسم له معنى الحياة.

إنه لقرار كبير يتخذه الإنسان عندما يخيّر بين العيش المرفّه الآني المقرون بالذلّ، والحياة الكريمة الصعبة المنال المكلّلة بالعزّ. هنا تكمن شجاعة الاختيار!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى