مرويات قومية

الرفيق الدكتور طلال الجرجس.. كأنه يكتب اليوم

 

بتاريخ 23/09/2016 كنت عمّمت نبذة تضيء على سيرة الرفيق الدكتور طلال الجرجس، الذي تسنّى لي أن أعرفه في فترة تولّيه رئاسة تحرير «البناء» عام 1970، ثمّ عرفت عنه الكثير الحلو في مجال الاقتصاد والمال، إلى أن خسرناه باكراً وهو في أوج عطائه.

*

مؤخراً، حصلت من الفاضلة عقيلته السيدة ليلى على نسخة من كتابه «هموم عربية»، وإذ تصفّحته، وقرأت بعضاً من مقالاته، وقفت بإعجاب، ليس فقط أمام اتساع ثقافته في عالم الاقتصاد والمال، وهو الذي حاز على شهادة دكتوراة دولة في العلوم الاقتصادية والمالية، إنّما أيضاً أمام استشرافه الباكر لما وصلت إليه أوضاعنا في لبنان والمنطقة المحيطة. إنّه كتاب هام يصحّ أن يقرأه كل مهتم في عالم المال والاقتصاد(1)

*

أميركاوأحصنة طروادة(2)

تناولنا البارحة في هذه الزاوية الهوّة التي أخذت تتعمّق بين «الديمقراطية الأميركية»، كما ترسمها أجهزة الإعلام الأميركي، وبين تطبيقاتها على صعيد السياسة الدولية. ولقد خلصنا إلى القول بأنّ ارتكاز السياسة الأميركية إلى مفهوم «القوة العظمى» جعلها تجيز لنفسها ما لا تجيزه لسواها، وبالتالي تبتعد بالتدريج عن المبادئ الديموقراطية التي أعلنتها، لتلتقي بالمبادئ التي كانت قد أعلنت الحرب عليها.

ويبدو أنّ مفهوم «الدولة العظمى» قد فعل في الإدارة الأميركية إلى حد جعلها تؤمن «بحقها» في «حماية الحرية في العالم الحر»، وتنكر على الدول الأخرى حق المعارضة أو حتى اعتماد سياسة مستقلة، الأمر الذي يتناقض بوضوح مع أبسط مبادئ الديمقراطية.

الصدام الرئيسي الأول حدث بين الإدارة الأميركية وبين الرئيس الفرنسي شارل ديغول. كانت «الخطيئة المميتة» التي اقترفها ديغول أنه أعلن عام 1967، عن عزم حكومته على اتباع سياسة اقتصاديةنقدية (وعسكرية) مستقلة عن السياسة الأميركية. وتلخّص حجة ديغول في السعي لتحقيق استقلال بلاده النقدي بما كان قد أعلنه مستشاره الاقتصادي «جاك روئيف» من أنّ الولايات المتحدة قد تخلّت عملياً عن التزاماتها في «برتون وودز»، وأنها تنهج سياسة تضخمية تنعكس آثارها على القارة الأوروبية ومن ضمنها فرنسا. ولقد اختصر «فاليري جيسكار ديستان» وزير المال الفرنسي آنذاك (واليوم) موقف بلاده بقوله لمندوب أميركا في أحد اجتماعات صندوق النقد الدولي: «إنّكم تسببون التضخم وتصدّرونه إلى أوروبا».

وتنفيذاً لسياسة الاستقلال، تقدّمت فرنسا من أميركا بطلب ما لديها من دولارات بالذهب، وذلك عملاً ببنود اتفاقية «برتون وودز».

وبرغم «شرعية» الموقف الفرنسي، وانسجامه مع مبادئ القانون الدولي والديموقراطية، فقد تفجّر الغضب الأميركي على ديغول وهطل على فرنسا، عام 1968، مظاهرات وإضرابات تعاون على تنظيمها وتوجيهها «معتمدو» أميركا من جهة، والصهاينة (بسبب موقف ديغول من عدوان حزيران 1967) من جهة أخرى. وكانت نتيجة إضرابات ومظاهرات أيار 1968، انهيار الاقتصاد الفرنسي، وتخفيض قيمة الفرنك، والإطاحة بديغول على أثر الاستفتاء الشهير الذي طرحه على الشعب.

إنّ فرنسا التي أخذت المبادرة وفجّرت موضوع الاستقلال عن السياسة النقدية الأميركية، هي نفسها التي تجرّأت مؤخراً على معارضة الدعوة الأميركية لتكتيل «الدول المستهلكة» في وجه الدول المنتجة للنفط، بقصد إرغام هذه على التسليم بشروط تلك.

ويبدو من تتبّع الذيول التي نجمت عن طرح فرنسا لسياسة التعاقد المباشر مع الدول المنتجة للنفط، بدءاً من المفاوضات الفرنسيةالجزائرية، وانتهاء بجولة جوبير الحالية، أن الإدارة الأميركية تلقي بكل ثقلها لوضع حدّ لسياسة التعاقد المباشر هذه.

وبرأنيا، إنّ إحجام بريطانيا يوم أمس عن توقيع عقد المقايضة مع إيران، ليس سوى نتيجة من نتائج الضغوط التي تمارسها أميركا لإفشال سياسة التعاقد المباشر.

ومن المؤكد أنّ السياسة الأميركية تتوسل العديد من «أحصنة طروادة» لفرض اتجاهها سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط».  

*

المعونات الاقتصاديةأو الأسطورة التي انتهت(3)

في جملة التهديدات التي مارستها السياسة الأميركية، لإرغام الدول العربية على العودة عن قراراتها المتعلقة بالحظر وخفض الإنتاج وزيادة أسعار النفط، كان التهديد بوقف «المعونات الاقتصادية» التي تقدّمها البلدان «المتقدمة» للبلدان «المتخلفة».

وقبل بضعة أيام اقترع الكونغرس الأميركي، بأكثرية 248 صوتاً مقابل 155 صوتاً، ضد اقتراح بتخصيص 1.5 بليون دولار للمؤسسة الدولية للإنماء (آي.دي.آي) التي تتميّز بتقديم قروض طويلة الآجال وبفائدة منخفضة للبلدان المتخلفة.

ولقد اتفقت معظم الأجنحة في الكونغرس، من فولبرايت إلى مؤيدي كيسنجر، على إسقاط الاقتراح بحجة «أنّ الحرب الباردة قد انتهت» وأنه لم يعد لأميركا مصلحة في تقديم هذه المعونات.

والذين يسمعون التهديدات الأميركية بقطع «المعونة الاقتصادية» للبلدان المتخلفة، دون أن يكونوا على علم بحجم هذه المعونات وبكيفية تقديمها، يظنون أنّ البلدان التي ستتلقاها لا بدّ محكوم عليها بالموت جوعاً إذا ما حدث ونفّذت أميركا تهديداتها.

والحقيقة التي تعترف بها الأمم المتحدة، وحتى الولايات المتحدة، هي أنّ «المعونات الاقتصادية» التي يهدّدون الآن بقطعها لم تكن سوى أسطورة استخدمت مدة ربع قرن من الزمن في دغدغة أحلام البلدان الفقيرة.

ونكتفي الآن بذكر بعض الحقائق عن هذه المعونات التي لم تُعِنْ أحداً:

أولاً: لقد فشلت جميع الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة في سبيل دفع الدول الصناعية لرفع نسبة ما تقدّمه من «معونات» إلى 1 بالمئة من دخلها القومي. الدولة الوحيدة التي قاربت معوناتها هذه النسبة هي فرنسا، بينما ظلّت الأكثرية الساحقة من الدول تقدّم ما يقلّ عن نصف بالمئة. ومما يُذكر، على سبيل المقارنة، أنّ الكويت، قرّرت قبل بضعة سنوات تخصيص خمسة بالمئة من دخلها القومي لتقديم معونات اقتصادية للدول العربية.

ثانياً: إنّ هذه المعونات، بالإضافة إلى ضآلة حجمها، سواء بالمقارنة مع إمكانات الدول المانحة أو مع احتياجات الدول الممنوحة، كانت جميعها خاضعة إما لشروط اقتصادية أو سياسية أو لهذه وتلك في آن معاً.

فالمعونات المقدمة، إما أنها كانت تنطلق من مفهوم «الحرب الباردة» التي لا يزال رؤساء الكتل في الكونغرس يعيشون في أجوائها، أو أنها كانت تشترط على الدول «المستفيدة» استيراد أنواع معينة من البضائع التي ليست لها حاجة رئيسية بها.

ثالثاً: كانت الدول الصناعية، ولا زال معظمها يرفض اعتماد مبدأ «المعونات المتعددة الجوانب»، حيث تشترك عدة دول في تبنّي برنامج للمعونات يتم وضعه في ضوء احتياجات الدول المتخلفة، وتصرّ على مبدأ المعونات التي تأخذ شكل الاتفاقات الثنائية.

والسبب في ذلك، هو أنّ الشكل الأخير يمكن الدولة التي تقدّم معونة ما، أن تضع الشروط الملائمة لاحتياجاتها هي. وبرغم تعدد الاتفاقات الثنائية، فجميع الدول «المانحة» كانت تتفق على رفع أسعار البضائع «الممنوحة» في مقابل الحصول، باليد الأخرى، على موادّ أولية بأسعار منخفضة.

وهكذا فقد أجمع الاقتصاديون، غير الملتزمين بمخططات «الحرب الباردة»، على اعتبار المعونات التي تهدد أميركا بقطعها، شكلاً من أشكال استنزاف ثروات البلدان الفقيرة.  

*

المؤلف في سطور (نقلاً عن الغلاف الخارجي)

عربي سوري، وُلد عام 1932 في المقعبرة(4) وهي واحدة من القرى السورية العديدة التي تحمل أسماء تعود إلى حضارة عمرها عدة آلاف من السنين.

درس وتخرّج في الأكاديمية اللبنانية (بيروت)، وبعدها في جامعة لوزان (سويسرا)، حيث نال في العام 1968 شهادة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية والتجارية.

عمل منذ تخرّجه مستشاراً اقتصادياً في بيروت، وأستاذاً محاضراً في الجامعة اللبنانية، ثم مستشاراً لدى وزارة الاقتصاد والتجارة، وغرفة تجارة وصناعة أبو ظبي.

من مؤلفاته، كتاب «النظام النقدي والمصرفي في لبنان»، الذي صدر بالفرنسية عن «دار النهار للنشر، (1970) ثم تُرجم إلى العربية، وصدر عن «الشركة الشرقية للطباعة والنشر» (1971)، وكتاب «ثورة المستهلكين»، الذي صدر عن «أوريان برس» (1972).

 

ننصح بقراءة النبذة المشار إليها آنفاً، للإطلاع على سيرة الرفيق د. طلال الجرجس.

*

 

هوامش:

(1) صدر الكتاب عن شركة أبو ظبي للطباعة والنشر، وهو من 361 صفحة من الحجم الكبير. يقول المؤلف في تقديم كتابه بهذه الكلمات على الصفحة الأولى من الغلاف الخارجي: « آراء في اهم الأحداث الاقتصادية التي واجهتها البلدان العربية، سواء على الصعيدين الإقليمي والقومي، أو في نطاق علاقاتها بكلّ من مجموعتَي البلدان النامية والدول المتقدمة صناعياً».

(2) المرجع جريدة «الوطن» الكويت بتاريخ 26/1/1974 (254 – 255).

(3) المرجع جريدة «الوطن» الكويت بتاريخ 24/2/1974 (184 – 185).

(4) المقعبرة: التي منها الأمين سهيل رستم. مراجعة ما أورده الأمين الراحل سهيل عن «المقعبرة» على الموقع المُشار إليه آنفاً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى