الوطن

لماذا لودريان مذعور من تخلّي لبنان عن فرنكوفونيّته؟

} د.وفيق إبراهيم

ماذا يريد وزير الخارجية الفرنسي جان ـ إيف لودريان من جولته الأخيرة في لبنان؟ سؤال يستحق التعمق في إجابته، والانطلاق من رفض مسلسل البكاء على الأطلال الذي مارسه في معظم لقاءاته الرسمية والخاصة.

فلو كان لبنان بلداً لا أمل بإعادة تقويمه لما زار لودريان مُبدِّداً يومين كاملين في اجتماعات منهكة أرهقت عينيه التعبتين أصلاً بالولادة.

بدا الرجل ناعياً لبنان الدولة والكيان السياسي على أساس أن انهياره الاقتصادي ونظامه السياسي الفاسد بالتكوين، أدركا مرحلة الاستقرار في قاع الهاوية، ولا أمل يُرتجى من بلاد الأرز.

ما يطرح تساؤلاً بريئاً عن أسباب زيارته بلداً اصبح في طور الاحتضار وغير قابل للإنعاش؟

كان بإمكانه استعمال أسلوب «الندب» من باريس عاصمة بلاده واستدعاء سفير لبنان إليه لإبلاغه تنبؤاته المشؤومة.

هناك ثلاثة مؤشرات تكشف ان الرجل ذهب منحى نشر التشاؤم حول مستقبل لبنان لإعادة الاستحصال على الاسباب الحقيقية لزيارته.

المؤشر الاول، هو إصراره على زيارة الكاردينال الماروني بشارة الراعي من دون سواه من القادة الدينيين، وهذا عمل غير مألوف في الزيارات البروتوكولية للسياسيين الخارجيين، فامَّا ان يكتفوا بزيارة المسؤولين السياسيين او يطورونها الى زيارات يجب أن تشمل كامل المرجعيات الدينية من دون استثناء حرصاً على الحيادية الظاهرية.

لجهة المؤشر الثاني فيتعلق بتخصيصه مبلغ 16 مليون يورو للمدارس التابعة للرهبانية الكاثوليكية والفرنسية من دون غيرها من المدارس

وهذا ما جعل رئيس المجلس النيابي نبيه بري يطلب منه في لقائه الأخير به دعم الجامعة اللبنانية الوطنية والمذاهب، ولديها فروع في مناطق ذات غالبيات مسيحية وسنية وشيعية ودرزية بما يؤكد على انها المؤسسة التعليمية اللبنانية الوحيدة ذات الطابع الوطني التي يدرس على مقاعدها أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى وصولاً الى طلاب أغنياء ينجذبون اليها وطنياً.

لذلك بدت فئوية لودريان واضحة في دعم المدارس المسيحية المرتبطة ببلاده، مقابل تجاهل المؤسسات التعليمية الوطنية.

أما المؤشر الثالث الذي يكشف عن اهدافه الحقيقية فربطه الانهيار الاقتصادي الحتمي للبنان مع ضرورة التوجه «حصراً» ومن دون اية ابواب نجاة أخرى نحو صندوق النقد الدولي وبسرعة وإلا فإنكم بائدون زائلون في أقصى الجحيم الذي لا عودة منه.

كيف يمكن تفسير حركات لودريان؟

تعتقد الدولة الفرنسية أن الصعود الإقليمي لحزب الله ينعكس بشكل يصبح فيه قادراً وفي أوقات قريبة على كامل لبنان، لا سيما أن الصعود السياسي للحزب متواكب مع تجذير ثقافته المتقاطعة مع الثقافة الإيرانية كما ترى، وهي ثقافة مستمدّة من الإسلام عموماً ووجهته الشيعية خصوصاً.

لذلك يرى الفرنسيون ان الفرنكوفونية تتراجع مع تقهقر الاحتكار المسيحي الكبير للسلطة في لبنان بدءاً من اتفاق الدوحة التي أعقبت الانتصار على «اسرائيل» بين 1982 ـ 2006، وضرب الارهاب في سورية منذ 2015 وعرسال منذ 2016 .

فالفرنكوفونية تبدو في المنطلق تقليداً للغة المنتصر الفرنسي في القرنين 19 و20 لتدرك مرحلة تقليده في الملبس والمأكل والمشرب وفنون الحياة، الى أن تحول المقلدون الى تابعين سياسيين في كل شيء تقريباً وتصبح باريس مربط خيلنا وفرنسا ام الدنيا عمومكما يقول قسم كبير من اللبنانيين.

هؤلاء يرفضون علناً وعلى شاشات التلفزيون ان يصف أحد الفرنسيين في لبنان بالمستعمرينتماماً كردات فعل طوائف أخرى تأبى وصف العثمانيين المحتلين أيضاً.

الفرنسيون إذا مذعورون حالياً من «الفارسينية» الايرانية التي يعتبرونها منافساً للفرنكوفونية وبديلها الانجلو ـ الساكسوني في آن معاً.

هذا ما جعل لودريان يذهب مباشرة لمساعدة مدارسه الكاثوليكلية حاصراً زيارته الدينية بالراعي.

ولأنه يعرف ان الحرب تحتاج الى ادواتها، فأراد اعادة الامساك بالمشهد اللبناني من خلال منعه من «الاغتراب» نحو روسيا والعراق والصين وايران، مبتدعاً فكرة استكمال المفاوضات مع صندوق النقد.. ومستبطناً جملة مساعدات فرنسية للبنان قد يجري الإفراج عنها مع العودة الى سجن صندوق النقد.

بذلك يكون لودريان نجح بدعم الفرنكوفونية بواجهتها الثقافية ـ التربوية وأبعادها السياسية الاستراتيجية، معيداً ضبط لبنان في إطار السياسات الأميركية ـ الفرنسية التي لا تزال حتى اليوم تعتبر ان لبلاد الارز بالنسبة اليها دورين اثنين: الاول هو الدولة العربية المؤيدة للغرب في كل توجهاته، والثاني انها باب الى سورية بالايجاب في معظم الأوقات وبالسلب في بعض الاحيان.. فأين يوجد بلد مفلس ومنهار يوافق على استقبال مليوني نازح سوري لمجرد ان الدول الغربية والخليجية طلبت منه ذلك؟ انه لبنان بالطبع، هناك ايضاً الاردن الذي كان حالماً بنفوذ سياسي وكياني له في جنوب سورية، لكنه اتجه الى التمرد دافعاً بعض النازحين السوريين الى المغادرة بعد تراجع المشروع الأميركي.

يتبين إذا ان زيارة لودريان ليست مجرد ورقة نعي، كان بإمكانه إرسالها من مكتبه في باريس بالبريد الدبلوماسي، لكنها محاولة لاسترجاع لبنان الفرنكوفوني والغربي والاميركي بضغوط كهنوتية وسياسية واقتصادية قد تشتد حيناً، لكنها تعرف ان الضغط الى حدود التسبب بالانهيار، لا ينفع احياء فرنكوفونية تلفظ انفاسها الاخيرة في مكتبات لبنانية تراثية وانجلو ـ ساكسونية تتراجع على وقع التراجع الاستراتيجي للنفوذ الأميركي من الشرق الاوسط.

فهل يستعمل الأميركيون السحر الخليجي في لبنان بعد تعثر مبادرة لودريان؟ أي العودة الى الضغط المذهبي مع بريق الفرنكوفونية؟

هذه امور لن نرى إجابة عنها إلا بعد الانتخابات الرئاسية والنيابية عند الأميركيين والإسرائيليين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى