ثقافة وفنون

خصوصيّات انبناء الومضة وغاياتها

} د. باسل بديع الزين

أن يُكرِّس أديبٌ حياته بأكملها من أجل الدّفاع عن فكرة يؤمن بها، فهذا، لعمرنا، ضربٌ من التّفاني قلّ نظيره، وإيمان عميق بجدوى طروحات خلّاقة وثائرة من شأنها أن تمهّد السّبيل أمام ابتكار فضاء أدبيّ جديد بالتّمام. ذلكم ما قام به، بالضّبط، الرّاحل الكبير الأستاذ أمين الذّيب من خلال ابتكاره مصطلح الأدب الوجيز، وتأسيس ملتقى يحمل هذا الاسم، وسعيه الدّؤوب إلى تكريس نوع أدبيّ جديد قوامه الومضة والقصّة الوجيزة، مع كلّ ما ينطوي عليهما هذا التّقسيم من رصد خصائصهما، ورفد سماتهما، وتأصيل نوعيهما.

في هذا السّياق، كثُر الحديث عن خصوصيّات انبناء النّصّ القصير على لسان أكثر من ناقد، وعلى امتداد نصوص لا حصر لها لكوكبة من الشّعراء والمهتمين. ومن بين الطّروحات التي حكَمَتِ الرّأيَ العام، وشكّلت ذائقته الأدبيّة في ما خصّ تلقّفه هذا النّوع من النّصوص، هي الطّروحات التي ربطت، حصرًا، بين الحاجة المجتمعيّة في ظلّ عصر السّرعة، وانفتاح سبل القول على الوجازة بسبب حركيّة الزّمن، وفعاليّته السّريعة، وانقضاء لُحَيْظاته على هديِ إقبالٍ طافحٍ بالنّقلات الضّوئيّة من دون القدرة على مكابدة الصّبر، وتحمّل نشوة الانتظار. أضف إلى ذلك، بروز ثلّة من النّقّاد يرون إلى النّصّ القصير وسيلة لغاية أعمّ، ونعني تحديدًا: الإفصاح عن أكبر قدرٍ من المعاني بأقلّ قدرٍ من الألفاظ.

حقيقة الأمر أنّ الاكتفاء بهذين المسوِّغين، أو القبول بهما على إطلاقهما فيه تجنٍّ واضح على مشروع الأدب الوجيز، وعدم قدرة على اكتناز ما ينطوي من تحدّيات ثقافيّة، وطروحات نقديّة، وانعقادات لفظيّة ومعنويّة.

بعبارة أوضح، لم يكن أمين الذّيب ليرضى بمثل هذا الاختزال العصيِّ على الفهم العميق لمقاصد مشروعه. ولأنّنيوسائر أعضاء الملتقىقد لازمته ولازمني، وشاطرته آراءه وشاطرني آرائي، واحتكمتُ إلى مسانيده المفهوميّة واحتكم إلى مسانيدي المفهوميّة، فذلك يُمكّنني من بسط ما احتجب، وعرض ما انطوى من مسلّمات الغوص ابتداءً، ورحلة التقصي على امتداد سنوات ثلاث أمضيتها بمعيّته.

انبنت خصوصيّات الومضة انطلاقًا من غياب منظور نقديّ فاعل يُشخِّص حال الرّكود في ظلّ امتناع النّصوص المُنتجة، في قسم كبير منها، عن إثارة دهشة مُضاعفة، وإحداث مفارقات طريفة، وابتكار لغة جديدة بالتّمام. ولهذه الغاية كان الأدب الوجيز. بتعبير آخر، لم يَجرِ البحث عن الومضة بوصفها نمطًا تعبيريًا قصيرًا يُراعي روح العصر، بل جرى البحث عنها انطلاقًا من جملة مسوّغات أبرزها: قدرة هذا الشّكل التّعبيريّ الجديد، إذا ما أُتيح له أن يُكرِّس مفاهيمه وسماته وخصائصه، على طرق أبواب غير مطروقة، ذلك بأنّ هذا الشّكل الجديد يستتبع بدوره مضامين قول جديد. وبشيء من التّفصيل، نرى أنّ الوجازة بما تنطوي عليه من شروط التّكثيف، وعلاقات التجاور، وطاقة المفردة، وعدد الكلمات المحدود، وضرورة تتويج النصّ بمفارقة تخييليّة وعقلانيّة في آنٍ معًا، أي مفارقة تُعيد نزف ما رتقه الشّعر بمنظوماته جميعها، فتكتشف مناطق عصيّة، وتجوب مدنًا غير مأهولة بعد، وتستشرف آفاقًا لم يبلغها أحد من قبل. هذه الشّروط العصيّة التي تتطلّبها الومضة هي شروط تكوينيّة، وخصوصيّات انبنائيّة، تروم غايات بعيدة ليس أقلّها إعلان ميلاد لغة جديدة غير مطروقة من قبل. وعندما نتحدّث عن لغة جديدة، فإنّنا نعني حرفيًّا ما نقوله، ذلك بأنّ الشروط التي تمليها طبيعة الانفعال الرّصين، والكتابة المتّزنة، والتّكثيف المنشود، والصّقل المطبوع، هي شروط تُسقط الكثير من علل القول السّابقة، وتفتح مجالات مغايرة، وتُحرّر الطاقات التّخييليّة، وترفد مجرى تعابير استكشافيّة، واستشرافيّة.

الكتابة عن الومضة، شأنها شأن كتابة الومضة، أمر عسير، لكنّه مطلوب وبشدّة. وهذا إن دلّ، فهو يدلّ على شخصيّة مؤسّس الأدب الوجيز الذي نجح في رصد اللحظة المؤاتية، وكشف النّقاب عن أزمات تتعلّق بوجود الشّعر العربيّ نفسه. لذا لا نغالي إذا قلنا بأنّ هذا المشروع اتّسع ليلقى رواجًا كبيرًا، واستقطابًا واسعًا، فاجتمعت كوكبة من النّقاد والشّعراء والأدباء والرّوائيين في محاولة لتلمّس ما استشرفه أمين الذّيب، وتكريسه في إطار منظومة فكريّة كاملة. ولكي يُكمِل مؤسّس الملتقى ما بدأه تنظيرًا، فإنّه آثر طباعة ديوان ومضة ليكون شاهدًا تطبيقيًّا على اقتران التّنظير بالنّصوص التّطبيقيّة.

الأدب الوجيز يُدين اليوم بأسسه الفكريّة، ونصوصه التّطبيقيّة، إلى مؤسّسه، وإلى مجموعة من المفكرين والأدباء والشّعراء، ويطلب إليهمكما مؤسّسهأن يمضوا قدمًا في ترسيخ هذه المفاهيم، وتقديم أعمال تعيد للشعر وافر الصّحة والعافية والعطاء، وللقصة بهاء حضورها، وللنقد مرامي بعيدة، ومداميك جديدة.

 

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى