مقالات وآراء

أنطون سعاده معلم وقائد نهضة عمليّة

بفلسفة التفاعل الموحّد الجامع القوى الإنسانية استعادت أمتنا ريادتها الحضاريّة معلمة للأمم

} يوسف المسمار

 

 

سورية مهد الحضارة الإنسانيّة

لقد أصبح واضحاً في هذا العصر ان الهلال السوري الخصيب الممتدّ من جبال طوروس في الشمال الفاصلة بيننا وبين تركيا الى قناة السويس والبحر الأحمر والخليج في الجنوب، ومن جبال البختياري وزغروس في الشرق الفاصلة بين بلادنا وبين بلاد فارس في الشرق الى البحر المتوسط وجزيرة قبرص في الغرب هو مهد الحضارة الإنسانية التي تعود الى ما قبل بدء التاريخ الجلي والتي وُلدت فيها حروف أبجدية الكتابة، وابجدية القوانين الإنسانية، وابجدية رسالات الحكمة الإنسانية ومختلف المعارف الأساسية والعلوم والفنون مما جعل أديبنا الفيلسوف جبران خليل جبران يقول في رده على سؤال وُجّه اليه: «هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء ام هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟» فقال: «في عقيدتي أن ما نحسبه نهضة في الاقطار العربية ليس بأكثر من صدى ضئيل للمدنية الغربية الحديثة، (…) لم تختلق شيئاً من عندها، ولم يبن منها ما كان موسوماً بطابعها الخاص، أو ملوّناً بصبغتها الذاتية. والاسفنجة التي تمتص الماء من خارجها وتنتفخ قليلاً لا تتحول الى ينبوع ماءٍ حيّ. أما ذاك الذي يرى في الأسفنجة نبعة فهو أحوج إلى الرمدي وعقاقيره منه الى صاحب هذا المقال ونظرياته في الاجتماع». كما ورد في الكتاب الذي صدر عن دار الهلال في مصر سنة 1923 تحت عنوان «فتاوي كبار الكتاب والأدباء» في موضوعين: الموضوع الأول حول مستقبل اللغة العربية، والموضوع الثاني حول نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية.

نفهم من كلام جبران أن النهضة الحقيقية هي التي تخلق وتختلق شيئاً جديداً من عندها يتسم بطابعها الخاص وطبيعتها المميزة، وأن الإنسان الناهض هو الذي يُوَلّد شيئاً جديداً ينبع من ذاته ولا يُستعار من خارج ذاته. فاذا استعاره من خارجه بطل أن يكون من ابتكاره وتوليده وإبداعه.

رأي جبران خليل جبران في النهضة

أعود الى جبران خليل جبران في المقال نفسه حيث قال: «لو أتيح لنا الوقوف هنيهةً على قمة من قمم التجريد مستعرضين مآتي العصور الغابرة لرأينا أن نهضات الأمم ووثباتها لم تكن بما أوجدته لمنفعة خاصة بها، أو لمجد محدود بحدودها وتخومها، بل كان بما تركته إرثاً للأمم التي جاءت بعدها، وعلمنا أن زبدة العهد الذي كان فجره في بابل ومساؤه في نيويورك هي بالحقائق العامة الشاملة التي اكتشفها الإنسان وأثبتها، وهي بالجمال المطلق الذي رآه في الكيان فوضعه بقوالب خالدة وأوقفه أبراجاً ذهبيّة أمام وجه الشمس». الى أن يقول: «كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً. وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضاً».

ويكمل جبران خليل جبران رأيه في النهضة فيقول: «إن النهضات بالمصادر لا بالفروع، وبالجوهر الثابت لا بالأعراض المتقلّبة، وبما ينشره الوحي من غوامض الحياة لا بما يحوكه الفكر من الرغائب الوقتية، وبالروح المبدع لا بالمهارة المقلدة، فالروح خالد وما يبيّنه الروح خالد، أما المهارة فقشور مصقولة تزول، وما تعكسها على أديمها المصقول فأخيلة تضمحل».

النهضة بالتوليد لا بالتقليد

أعود الى مقطع من جواب جبران خليل جبران الذي يقول فيه: «لقد طرحت الكثير من أفكاري بين ملتويات الأعوام الثلاثة الأخيرة، أما هذه الفكرة فلم تزل تلازمني، فما خشيته وتبرمت منه اذ ذاك أخشاه وأتبرم منه الآن. بل هناك أمر أدعى الى الوجل والقنوط، وهو أن أوروبا في أيامنا هذه تُقلّد أميركا وتتبع خطواتها بينما الشرق العربي يُقَلّد أوروبا وينحو نحوها. أعني أن الشرق العربي صار مقلداً للمقلّدين وظلاً للأظلال. أعني أن الأسفنجة قد أصبحت لا تمتص من الماء إلا ما يتسرّب اليها من الاسفنجة الأخرى، وهذا منتهى الضعف والاتكال على الغير. بل هذه منتهى الغباوة والعماية لأننا في غنى عن الاستعطاء فضلاً عن استعطاء المستعطي»، الى أن يقول: «في منزلنا القديم، كنوز وذخائر وطرائف لا عداد لها ولكنها مشوّشة متراكمة محجوبة بغشاء من الغبار. ومن المعلوم أن الغربيين قد أتقنوا فنّ الترتيب حتى بلغوا أقصى درجاته، فهم إن رتّبوا عيوبهم ظهرت كأنها حسنات جليلة، وإن رتّبوا حسناتهم بدت كأنها معجزات رائعة. فاذا كان لا بدّ من الاقتباس فلنقتبس هذا الفن عن الغربيين بشرط ألاّ نقتبس سواه».

يفيدنا كلام جبران ان «العهد الذي كان فجره في بابل أصبح مساؤه في نيويورك» وأن شعوب العالم اليوم تسير باتجاه المساء وحلول الليل وليس باتجاه الفجر. فالكنوز والذخائر النهضوية منسيّة ومهملة ومهجورة منذ زمن طويل ومتراكمة ومغمورة تحت طبقات تاريخية من غبار رداءة الأعراف والعادات والتقاليد والخرافات والاوهام والأحقاد والضغائن والعنجهيات، حتى أصبحت الشعوب مقطورة بالقاطرة الأميركيةالصهيونية المسائية التي تجرّ العالم الى ليلٍ أبدي ليس بعده فجر كاسفنجنة تمتص ما يتبقى من الاسفنجة الأوروبية التي تمتص بدورها روحها مما يتسرب من أطراف مستنقع البحيرة الصهيوأميركية المحظور الاقتراب منها حتى على الشعب الأميركي نفسه.

أنطون سعادهتأثر بالويل فأبدع نهضة

هذه الحالة المظلمة هي التي دفعت انطون سعاده لأن يكون رجل نهضة أمة من بين طبقات ركام أزمنة الويل الذي حجب كنوزنا وذخائرنا ومآثرنا وجعلنا نتدحرج من هاوية عميقة الى هاوية أعمق ونتقهقر من ليلٍ حالك الى ليل أشد ظلمة وحلكاً وعفناً، ولم يعد بالإمكان الخلاص والخروج الا بحركة نهضة حياتية عظيمة تتناول الحياة بكليتها مادة وروحاً بنظرة كلية بديعة شاملة مبتكرة، ونظام بديع لا يقوم على التضخم والتراكم والانتفاخ بل يقوم على قواعد حيوية ويعتمد على القوة الحقيقية التي هي: «قوة السواعد والقلوب والأدمغةنظام قومي اجتماعي بحت، لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئاً، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا». فكان أنطون سعاده بهذا الأمر رجل نهضة أمة ورجل فكر متحرّك يتحرّك وينمو ويتقدم في الحياة بوعي وبطولة، وكان قائد حركة نظامية واعية مفكرة قومية اجتماعية تعمل بإصرار وايمان وإخلاص لصيانة مصالح المجتمع كله وليس رجل كتابة كُتبٍ تُوضع على رفوف المكتبات، ويتسامر بدراسة مواضيعها أساتذة الجامعات وطلاب المدارس والهواة من الذين يحبون قراءة الروايات والقصص وأشعار الغرام والمقالات في شتى المواضيع.

صحيح أن أنطون سعاده كان عالماً اجتماعياً وفيلسوفاً ومفكراً في الوقت نفسه بنى عمارته الفكرية والفلسفية على العلم وليس كغيره من الفلاسفة السابقين الذين أشادوا بناياتهم الفلسفية على التأمل والتصوّر والافتراض، ولكن فكر أنطون سعاده لم يكن من أجل الفكر، ولا فلسفته من أجل الفلسفة، ولا علمه من أجل العلم، ولا كتاباته من اجل الكتابة، ولا جهاده وتضحيته من أجل الجهاد والتضحية، بل ان فكره وفلسفته وعلمه وفنه وكتاباته وجهاده وتضحيته واستشهاده كانت كلها من أجل تحقيق نهضة مجتمعه.

واذا كان من تأثير لأحد عليه فقد قالها صراحة: «أنا مدين بكل ما أملك لأمتي» وجعل هذا الدين على كل من انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي حين قال: «كل ما فينا هو من الأمة وكل ما فينا هو للأمة. الدماء عينها التي تجري في عروقنا هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها» وقد كان صادقاً في قوله: «لقد أتممتُ رسالتي وأختمها بدمي» عندما واجه حكم الإعدام بأوامر خارجية من دون محاكمة ونفّذ فيه حكم الاعدام في الثامن من تموز 1949 قبل أن يُوقّع مرسوم الإعدام الذي وقّع في التاسع من تموز بعد تنفيذ الإعدام بيوم. وهذا ما دفع أستاذ الدراسات العليا الدكتور لويس فرناندو لوبس بيريرا في الجامعة الفدراليةكلية الحقوق في ولاية بارانا في البرازيل الى القول في دراسة له عن كتاب سعاده «نشوء الأمم»: «في الزمن الذي كانت فيه الخطابات القومية في الغرب والشرق تلجأ الى العناصر الأصولية المتزمتة المتصلبة وغير المرنة، في تلك الأزمنة التي سيطر فيها التعصب والتفرقة والتمييز العنصري، طلع علينا سعاده بهذه الدروس القيِّمة التي لا تقدَّر بثمن، والتي تبيّن لنا كيف أن التحوّلات الاجتماعية والتاريخية يجب أن يكون لها معنى مختلف عن المعاني التي ارتفعت على جدران الاستعمار، وأسوار المدنية المنغلقة، وأحقاد الكراهية العرقية. لقد حلم أنطون سعاده، نبوياً كما الأنبياء، بعالم ليس فيه حواجز ولا عوائق وعقبات، بعالم ٍ من العولمة الإنسانية الحقيقية، وليس بعولمة تقدّمها لنا الامبريالية الاستعبادية تحت قناع ٍمن التبادل الثقافي».

تفكير سعاده الفلسفي تفكير جديد

أما العلامة الدكتور يوسف مروة خلال مشاركته في ندوة فلسفية في أوروبا، فقد قال «كشف أنطون سعاده منذ بداية تفكيره الفلسفي على أن الوجود الإنساني ينطوي على ثلاثة ظواهر أساسية مُتتامة وموحدة في كيانه وهي:

الظاهرة الحسية التي تتعامل مع التجربة ومجالها العلم.

الظاهرة العقلية التي تتعامل مع الفكر ومجالها الفلسفة.

الظاهرة النفسية التي تتعامل مع الإلهام والإشراق والتبصر والحدس ومجالها الدين أو العرفان أو الروحانيات، ومن يحاول ان يفصل بين هذه الظواهر ويتعامل معها كوحدات مستقلة ضمن الكيان الإنساني، يكون كمن يشوّه الوجود الإنساني ويدمِّره…  

استطاع في فلسفته المدرحية أن يلغي مفهوم المادة المطلقة والروح المطلق، واستطاع أن يحقق التوحيد والارتباط بين المادة والروح، وبين النفس والذات، وبين الوعي والحياة، وبين العقل والإدراك الحسيّ، وبين الله والطبيعة في علاقة منطقية فلسفية واحدة في الوقت الذي لا تزال فيه الفلسفات الجزئية الأخرى تنظر الى كل ظاهرة من الظواهر كأنها مستقلة ومطلقة».

وفي لقاء مع أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور كمال يوسف الحاج في ستينيات القرن الماضي عندما كنت طالباً في كلية الحقوق وأكتب بعض الدراسات عن فلسفة سعاده أشار عليّ بقراءة مقالين كتبهما عن فلسفة أنطون سعاده: المقال الأول عنوانه «سعاده ذلك المجهول»، والمقال الثاني «سعاده الفيلسوف» حيث ورد في مقال الدكتور كمال يوسف الحاج ما يلي: «لقد عرفنا الفلسفة، نحن، في هذه الرقعة من الأرض، عرفناها تحت سمائنا، يوم جاء سعاده، وكانت الأمة كلها ترتقب تلك الساعة الرائعة. عرفناها يوم نظر سعاده، وشمل، وعقد، فكانت النظرة الشاملةكانت العقيدة. يومها كانت غاية عُظمى، فعلت، فغيّرت وجه التاريخ. يومها ولجنا أبواب عصر جديد، فكان عالم النور…».

«أجل عرفنا الفلسفة يوم قال سعاده في حركتنا قضية عظيمة مقدّسة. ونحن نثبت في هذه القضية العظيمة المقدسة. ونحن ننمو من أجل هذه القضية العظيمة المقدسة. ونحن، من أجل هذه القضية العظيمة المقدسة نحارب بالفكرنحارب بالعملنحارب بكل وسيلة. وهل للحياة قيمة بدون قضية عظيمة مقدسة؟ بدون مبدأ؟ وبدون عقيدة؟ هل للحياة قيمة بدون مثل منشود؟ يومها عرفنا الفلسفة. يومها قال سعاده ما قصدت كره الأجنبي. اذ ليس من هنا يجب أن نبدأ. البداية الكبرى ليست بغضاً. البداية الكبرى هي في صهر العقائد المتنافرةفي سبكها نظرة واحدة تشمل كل فكرةفي صبها، ثم امتشاقها رؤية جامعة تغمر الوجود رمّة. البداية الكبرى هي في الحرية البيضاء. تلك هي المحبة. يومها وجدت الفلسفة عندنا. يومها ولدت، تحت سمائنا، وعاشت واستشهدت، يومذاك استخلدت. منذ تلك الساعة الرائعة، لم تعد المطامع الأجنبية قادرة على تفسيخ وحدتنا، وإضعاف قوانا. يومها قلنا للأغيار، بهدوء وشمم، إن فينا سراً عظيماً. يومها تأنسنت قوميتنا. هذا هو سعاده الفيلسوف. بفضله عرفنا الفلسفةألا يجوز لنا القول بأن سعاده قد خلّف لقومه تركة فلسفية خالدة؟».

الحكمة قبل الفلسفةوحيث لا حكمة لا فلسفة

لقد عرف العالم الفلسفة مع سقراط وافلاطون وأرسطو التلامذة الإغريق الذين تعلموا الحكمة في بلادنا في مدينة صيدا وعاشوا ردحاً من الزمن فيها فأطلق عليهم اسم فلاسفة أي محبي الحكمة ولكن بين الحكمة ومحبة الحكمة فرق كبير، وبين الحكيم ومحب الحكمة فرق كبير أيضاً. فليس كل من يحب العلم عالم وليس كل من يحب الأدب أديب ولا كل من يحب الحكمة حكيم، بل الحكيم هو الذي يحيا الحكمة فيتطهر بها ضميره، ويتألّق بها منطقه ويسطع بها تصرفه ومعاملته للناس جميعاً ولا يخاطب بها الا من يحترمها ويستحق سماعها فيتغذى بها ويغذي من يحبها ليترسخ وهج الحكمة ونورها بين الناس محبة وسلاماً. وبهذا نفهم أهمية قول السيد المسيح عندما قال: «لا تتكلموا بالحكمة أمام الجهّال فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم، ولا تكافئوا ظالما فيبطل فضلكم».

 بلادنا امتازت بالحكماء. والحكماء هم أصحاب الرسالات الكبرى والتعاليم الأرقى التي باتباعها وتحقيق مبادئها تتحقق نهضات الأمم. ولأن رسالات الحكمة تنبع من داخل الحكماء ولا يستوردونها من خارج نفوسهم فهم هم النهضة والناهضون. وهذا ما يفسر قول جبران خليل جبران: «كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً. وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضاً» رغم تحوّل من ليس لهم نهضة ولا وطن بدون نهضة وبدون وطن، ورغم انهيار نهضة العرب وتخلّفهم عن أية نهضة حقيقية.

همُّ أنطون سعادهتحقيق نهضة لأمته وللعالم

 لم يكن همّ أنطون سعاده الفكر من أجل الفكر والفلسفة من أجل الفلسفة والعلم من أجل العلم كغيره ممن يُطلَقُ عليهم مفكرون وفلاسفة وعلماء بل كان همّه تحقيق نهضة أمته لتكون مثالاً ونموذجاً في النهوض لغيرها من الأمم. لذلك لم يكتف بنهضة أمته بل أراد أن ينتقل مشروعها الى الأمم جميعها. ومن هذه الناحية اهتم بالفكر الذي يخدم العالم كله كما يخدم قضية امته لأن من لا يقوم بخدمة قضية أمته لا يمكن أن يخدم أية قضية. وقد سبقه الى ذلك رسل كبار من أمته دنيويون ودينيون في المعرفة والفضيلة والقانون والعلوم والفنون والأخلاقيات والروحانيات الدينية حيث بدأوا أولاً في ترسيخ مفهوم رسالاتهم في بلادنا من دون انغلاق ثم انطلقت تعاليمهم الى جميع الأمم والشعوب ليأخذ منها كل شعب حاجته، وما يستطيع استيعابه، وما ينسجم ويتلاءم مع عقليته ونفسيته من تعاليمها وأفكارها وخواطرها وحكمتها.

وهذا ما حصل أيضاً مع سعاده حين ابتدأ بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي على أساس العقيدة القومية الاجتماعية والنظام القومي الاجتماعي على أساس الفلسفة المدرحيّة والنظرة الشاملة الى الحياة والكون والفن. بعد ملاحظته الدقيقة للفلسفات الجزئية التي قسمت العالم الى محورين متناقضين متحاربين مكفّرين بعضهما البعض، ومتمترس كل منهما بفلسفة جزئية فردية مادية وأخرى فلسفة جزئية فردية روحية سببتا دماراً هائلاً للبشرية ولا تزالان حتى وقتنا هذا متعنتتين بسبب تعنتهما ومبتعدتين عن حقيقة الحياة الإنسانيّة وحقيقة النمو والارتقاء الإنسانيّ الذي لا يمكن أن يكون مادياً بالمطلق ولا روحياً بالمطلق، بل يقوم على أساس واحد واضح ماديروحي أو روحيمادي دون تجزئة بين المادة والروح، بل بضرورة الوحدة المادية الروحية أو باصطلاح واحد هو «المدرحية» التي تعني حقيقة الإنسان في الوجود أو الوجود الإنساني الذي يستحيل وجوده روحاً فقط بدون مادة، أو مادة فقط بدون روح لأنه وجود تفاعل موحّد نشوءاً ونمواً وارتقاءً وبقاءً.

وهذا ما قاله سعاده في هذا الشأن عن المذهب الفلسفي القومي الاجتماعي في خطابه في الاجتماع القومي الاجتماعي في نادي «شرف ووطن» في بوانس ايريس الأرجنتين في شهر كانون الأول سنة 1939 ونشر في صحيفة الزوبعة في العدد 88:  

«ان في سورية اليوم نهضة عظيمة تعيد الى الأمة حيويتها لتعود الى الإنتاج والعطاء كما كانت تنتج وتعطي في الماضي. إن سورية تحمل اليوم الى العالم بنهضتها القومية الاجتماعية رسالة جديدة. هو ذا صراع عنيف هائل يستولي على العالم كله تقريباً شاطراً إياه الى شطرين لكل شطر منهما مصالحه العميقة في هذا الصراع ولكل جهة من المصالح نظريات ومبادئ تتستر وراءها وتعلن أنها تحارب من أجلها.

اننا نشهد الآن صراعاً عنيفاً في حرب عالمية هائلة لم يسبق لها نظير بين نظرية الشيوعية والاشتراكية القائمة على الأساس الماركسي الذي يفسّر الحياة ويريد إقامة نظام جديد في العالم كله بالمبادئ المادية، ونظرية الفاشيين والاشتراكيين القوميين القائمة على الأساس المزنياني والنشوي الذي يُفسّر الحياة ويريد إقامة نظام جديد في العالم كله بالمبادئ الروحية.

إن سورية لا تقف تجاه هذا الصراع الهائل واجمة واجفة.

إن النهضة السورية القومية الاجتماعية تعلن أن ليس بالمبدأ المادي وحده يُفَسّر التاريخ والحياة تفسيراً صحيحاً ويُشاد نظام عام ثابت في العالم، وانه ليس بالمبدأ الروحي وحده يحدث ذاك.

إننا نقول بأن التاريخ والحياة يُفسّران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامعبفلسفة جديدة تقول إن المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم

إني أقول إن النظام الجديد للعالم لا يمكن ان يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادةبين المبدأ الروحي والمبدأ الماديبين نفي الروح المادة ونفي المادة الروح، بل على قاعدة التفاعل الروحيالمادي تفاعلاً متجانساً على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادةعلى أساس ماديروحي يجمع بين ناحيتي الحياة الإنسانية.

بهذا المبدأبهذه الفلسفةفلسفة القومية الاجتماعيةتتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية الى العالم واثقة انه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المُعقّدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن اليه الجماعات الإنسانية كلها وترى فيه امكانيات الاستقرار السلمي واطراد الارتقاء في سلّم الحياة الجديدة».

لقد انقسم الفلاسفة أو ألأصح أن نقول محبي الحكمة وليس الحكماء بين مذهبين، لأن الحكماء لا يتعاملون مع بعضهم بالعداء: المذهب الروحي والمذهب المادي. وأخذ كل فريق يراكم ذرائعه وحججه على صحة مذهبه الفلسفي المطلقة ناكراً على الفريق الآخر اي شيء من الصحة والصواب مما جعلهما يخرجان عن جوهر الحياة الإنسانية ومسار نموّها وتطورها وارتقائها ونظام صعودها من الأرض الى السماء فتكسرت الجوانح باستئثار كل جانح بادعاء صوابيته المطلقة، ولم تحصد الإنسانية الا خراب العمران بشيوع الأحقاد التي ليس لها نتيجة الا دمار الكوكب الذي نعيش عليه.

فلسفة سعادة فلسفة التفاعل الموحّد

الحكمة تقول بلسان يسوع: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وهذه الحكمة تعني أن الإنسان يحيا بالخبز والروح. والخبز والروح يعنيان وحدة الحياة الإنسانية الروحية المادية. والحكمة تقول بلسان محمد: «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين». وهذه الحكمة تعني أيضاً وحدة الحياة الإنسانية المادية الروحية. فالحياة الإنسانية لا يمكن أن تكون أو توجد وترتقي بنفي واستبعاد عنصر اساسي من عناصر الحياة، بل تكون وترتقي وتستمر بتفاعل العناصر الروحية والمادية.

وهذا ما توصل اليه عقل أنطون سعاده المنفتح على مظاهر الكون والحياة والفن فقال بضرورة موقف الإنسان السلبي من الكون الماثل أمامنا والسعي الى اكتشاف قوانينه وخفاياه المحجوبة عنا، وقال بضرورة التعمق في فهم الحياة الإنسانية وعمارها وبنائها بناء حقٍ وعدلٍ واتزان، وقال أيضاً بالخلق الإنساني وابتداع كلّ فنٍّ جميل يجعل حياة البشر أجمل وأجود وأرقى.

وهذا هو مذهب أنطون سعاده الحكمي الفكري الفلسفي حيث قال: «تعاليم العقيدة القومية الاجتماعية تدعو الأمم الى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى، بالمبدأ المادي وحده والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، والى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحيمادي (مدرحي)، وان الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها».

على ضوء ما تقدم يتضح أن أنطون سعاده هو حكيم ومعلم وقائد وإنسان نهضة. وهذا يعني في الوقت نفسه انه مفكر وعالم وفيلسوف وضع لشعبه قواعد عهد جديد للنهوض ولم يخش مواجهة الموت عندما وجد ان في موته انتصاراً لرسالته العظمى وليس منظّر فكرٍ وفيلسوف كلام.

 إن فلسفته فلسفة علمية عملية وعلميتها وعمليتها أساس تأمليتها وليست تأمليتها أساس علميتها وعمليتها. انها فلسفة تفاعل موحّد وليست فلسفة جدل ديالكتيكي ونزاع أضداد تتصادم فتدمّر الواحد الموحّد الإنساني.

انها فلسفة كلية شاملة متولدة من التفكير القومي الاجتماعي المنبثق من الجماعة الواعيةمن المتحد الاجتماعي الحاضن الإنسانالفرد الذي لا ينتج حضارة في وحدة الإنسانالمجتمع المنتج الحضارة التي بها ترتقي الحياة الإنسانية بالأفعال قبل الأقوال، وبالإنجازات لا بتضارب الجدال، وبالتوليد والتحسين لا بالتقليد واجترار ما لم يعد صالحاً للحياة من أقوال فلاسفة الفلسفات الجزئية المكفّرة بعضها بعضاً التي تخطاها وتجاوزها «التفكير القومي الاجتماعي الذي يقدم النظرة الجامعة للمذاهب الإنسانية الجديدة المتنافرة» بحسب تعبير مولد ومبدع التفكير القومي الاجتماعي وقائد نهضة الأمة العلمية العملية المعلم أنطون سعاده الذي لم يكن منظّر فكر، ولا فيلسوف كلام بدليل أن تلامذته مستمرون بعده في نهضتهم، نهضة عملية في فلسفتهم وتعبيراً صادقاً عن فلسفة التفاعل الموحّد الجامع القوى الإنسانية التي فلسفتها نهضة ونهضتها فلسفة.

وهذه هي الحكمة السورية الحضارية التي أحبها هواة الحكمة واكتسبوا بعد ذلك لقب مُحبّي الحكمة أي فلاسفة.

*ردّ الكاتب على رسالة طالبة تعدّ دراسة تحليلية عن فكر أنطون سعاده تتضمّن مقاربة بين فكره وأفكار بعض المفكرين والفلاسفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى