ثقافة وفنون

في رحاب الطفولة والكراهية والموسيقى

} مصطفى بدوي*

الطفولة

كنت أحب جورج حبش ولا يستهويني أبو عمار لأن الأول كان يثير عنفواني الثوري الصغير وأشمّ فيه الوفاء لأم سعد، بينما الثاني كان حبيب الجميع ويرقص على كل الحبال ويتجه بشتى القبل نحو قبلة التسويات..

كنت أحبّ الروس وأمقت الأميركان لأن الطبل التقدمي كان مدوزناً على وقع دقّات الرفاق البروليتاريين ويشيد بجنة الفقراء، حيث نتفيأ نحن المستضعفين ظلال اشجارها الوارفة..

كنت أحب اسمهان وأمقت أم كلثوم، لأنها كانت بحسب رواية العوام وراء موتها فآزرتها صغيراً وسامرتها  في ليالي الأنس في فيينا كبيراً..

كنت أحب عبده الحمولي وأمقت أحمد البيضاوي لأن الحمولي كان يحملني إلى ما لست أدري من عناقيد الثريات بينما كان البيضاوي يحيلني إلى نسخة ممسوخة من عبد الوهاب..

كنت أحبّ سينما محمد لخضر حامينا وأكره سهيل بنبركة لأن الأول سرق السعفة الذهبية بواقعيته الثوريّة فيما كانت خطيّة سهيل تذكّرني بالطرب الغرناطي الذي يجعلني أغط في القرف..

كنت أحب الرقص في الهزيع الأخير في الأعراس  فوق السطوح وأمقت الانضباط لبرمجة عمودية تافهة.

كنت أحب الفوضى في كل شيء لأن الجديّة شبيهة بعنيزة صاحبة امرئ القيس الشمطاء..

كنت أحب الجدل البيزنطي وأمقت الوثوقيّة الرعناء لأن نداء خفيّاً كان يجلجل في مسامي أن تمرّد على كل جبة ضيقة…!!

الكراهية

كنت أكره الطرب الغرناطي لأنه يذكرني بالقيلولة التي كنت أرشقها بالتسلّل من البيت لمرافقة الأشقياء من أبناء الحومة لندلف إلى (جنان لاكيس) لسرقة ما تيسّر من فواكه طريّة.. أكيد أن البعض سيجدني أبالغ وأنا أتهجّم على الغرناطي إلا أن تمثلاتي له ارتبطت بغنج أولاد الفشوش ومظاهر التبرجز والبذخ التي كبرت على معاداتها لاشعورياً لأننا نحن الثعالب الصغار كنا لا نجد ما يسدّ جوعنا حين كانوا هم يرفلون في بحبوحة العيش.

كنت أكره قواعد اللغة العربية لأنها تؤصّل التحنيط وتكرّس الغباء.. كنت أجد فيها تأويلاً لمنطق الغالب المنتصر في تاريخنا الأجرب.. وأمعن في عدم الاهتمام بسفاسف الدرس اللغويّ لأني كنت أعتقد ببراءة أن الإبداع هو ما يصوغ النحو لا العكس!

كنت أكره المقرّرات الدراسية العرجاء واستبدلها بقراءة ما أشتهي من روايات ودواوين فكنت أسامر الماغوط وأدونيس والمتنبّي ومنيف وادوارد الخرّاط وغيرهما ولا أعير تفاهات المدرسة أي اهتمام. فلا هي أرشدتني لشجرة هؤلاء ولا أنا وجدت في خرائبها ما كنت أشتهي من ضلال أدبي جميل!

كنت أكره الإسبان وأعشق الألمان لأن ألمانيا هي دوسلدورف والمرسديس وروزا لوكسمبورغ وماركس فيما الإسباني كان يعني في مخيالي ذلك المحتلّ الجبان  الذي كان يكرهه أبي المهووس بعشق عبد الكريم الخطابي الذي قاتل بشراسة (السبنيولي وكال الصوبا) ومرمده في جبال الريف!

كنت أحب ماوتسي تونغ لأنه قام بثورته الثقافية والتهمت كتابه (في التناقض) حيث أغراني بالسفر فيما يشبه احراج الخيال الفلسفي العملاق

كنت أحب ناديا كروبسكايا وأعشق عبرها الأنوثة حين تغدو حافزاً للعظماء كي يحقّقوا منعطفات لافتة في تاريخ البشرية وأكره نفسي حين أصحو في الصباح على صياح سترة لألعن بشاعة اللحظة التي ولدت فيها وسط العربان!

الموسيقى وأشياء أخرى

كنت أكره نقيق المزكلدي ونعيق فويتح وأعشق الرحابنة ومنيرة المهدية وأم كلثوم وليلى مراد وعبد الوهاب ونجاة وعبد الحليم وفريد وفايزة أحمد..

كنتُ أكره مسرح الطيب الصديقي الغارق في الافتعال والتفكك السينوغرافي وأهذي بمسرح كركلا الغنائي الذي كان يُغريني  بشراسة لا تُحدّ ويغويني الى الحد الذي جعل أحد صحافيي لوموند وقتئذ يكتب على هامش عرض «الخيام السود» الذي قدّمته الفرقة في مسرح الشانزيليزيه عبارة ما زالت ترنّ في ذاكرتي جاء فيها:

voilà des gens qui ne veulent imiter personne)

اضافة الى ضلوعها في التعامل  مع التحف المسرحية  العالمية كما هو الشأن مع تعاطيهم مع (ترويض الشرسة) لشكسبير تحت عنوان، حكاية كل زمان) حيث لمع  في تأليف نصّها الموسيقيّ زكي ناصيف ومارسيل خليفة وعبد الحليم كركلا سنة 1982 وقدّمت على كازينو بيروت  في عزّ سعير الحرب الأهلية اللبنانية وقبيل الاجتياح الصهيوني بفترة قليلة جداً..

كنت أكره أحمد البيضاوي وانحني ولهاً واندفاعاً لفرقة ميكري التي سبقت زمانها بسنوات ضوئيّة. أكيد أني عشقتها لسببين لا ثالث لهما:

الأول فنّي بامتياز، إذ كانت تحملني بأجنحة توليفتها الموسيقيّة وزخات عذوبتها نحو شلالات أسطوريّة متدفقة بالعطور. والسبب الثاني لكون أعضائها من مدينتي وكنت دوماً أحثّ الخطو بحثاً عن خطاهم وريشهم بين أزقة وحارات (وجدة) التي تشبه امرأة فاتنة ضيّعها الأهل والأوغاد..

كنت أكره المشاغب وتكادة ومجموعات الصخب الشعبية وأتضوّر غراماً حين يلفني صوت عبد الصادق شقارة وعبد الهادي بلخياط والحياني وعزيزة جلال وهلم عزا..

كنت أكره مذيعي الأخبار في القنوات المغاربية  وأعشق مذيعي «البي بي سي» الذين ما زال كمطر ذاكرتي يحتفظ بأسمائهم: مديحة المدفعي، رشاد رمضان، علي أسعد، أيوب صديق، حسام شبلاق، محمد الازرق وهدى الرشيد.

كنت أكره كرة القدم وعويل المذيع المصطنع وأعشق برامج عبد القادر طالبي ويحيى الكوراري و»مغامرات المفتش الطاهر ومساعده لابرانتي» و»علي لابوانت» و»ريح الجنوب» وبرنامج «حديقتي آن الأوان أن نفترقا» وتوم وجيري)..

 

*ناقد وشاعر مغربيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى