ثقافة وفنون

قراءة في رواية «الملعون المقدس» لمحمد إقبال حرب

} د. فتحيّة دبش*

«لو أنّك تعلمين كم يزعجني هذا العالم…» (ماركيز)؛

حين يصبح الواقع أغرب من الخيال تنفلت الرواية أو السردية العربية على غرار مثيلاتها في المدوّنة العالمية من عقال التقليد نحو التجديد والتجدد. فخرج السرد في الكثير من النصوص الإبداعيّة من دائرة المعقول إلى اللامعقول ومن الواقع إلى الخارق في محاولة منه لقراءة العالم من حوله قراءة تعي مسؤولية الأديب في إعادة تدوير العالم بعد أن انفلت من كل المعايير الطبيعية التي تحكمه. والدارس للرواية العربية والسرد بصفة عامة سواء كان في الرواية أو القصة القصيرة أو حتى القصة القصيرة جداً يجد هذا المنزع العجائبي الذي صار وسيلته لنقد الواقع ولتعرية قبحه المتعدد لا سيما والحال أن مقصات الرقابة بالمرصاد لكل مشروع تعرية من الداخل أو حتى من الخارج. وهكذا أصبحت الواقعية السحرية حيلة الأدب ليكون شهادة على تحولات الواقع وتحولات الذات في مجتمعات قائمة على تخوم المتناقضات على كل الأصعدة. وفي هذا الإطار تتنزل هذه الورقة النقديّة التي تلامس الملمح الفانطاستيكي في رواية الملعون المقدس لمحمد إقبال حرب.

«الفانطاستيك»

تعدّدت الأعمال النقدية التي تعرضت إلى الأدب «الفانطاستيكي» وللواقعية السحرية والعجائبي والغرائبي فكانت تمزج بينها تارة وتفرّق بينها طوراً على اعتبار أن الغريب والعجيب والسحري و»الفانطاستيك» يختلف من ثقافة إلى أخرى، وإن الثقافة «نتاج» متعلق بالمكتسبات الحميميّة وبفلسفة خاصة في التعامل مع الظواهر والمعتقدات. غير أن هناك إجماعاً على تعريب الفانطاستيك بالعجائبي رغم شمولية المصطلح الأول وتقريبيتها في الثاني كما يقول الدكتور حمداوي. خاصة وأنه تم تعريب كتاب تودوروف بتبني العجائبي كترجمة للفانطاستيكي. وهو المرجع الذي تستند إليه الدراسات بصفة عامة وقد جاء فيه: «في عالم هو حقاً عالمنا الذي نعرف (..) يحدث شيء لا يمكن تفسيره بقوانين ذات العالم الذي نعرفه. إن من يشهد على هذا الحدث لا يجد بداً من تبني واحد من احتمالين ممكنين اثنين: إما أن يكون نتيجة اضطراب الحواس او الخيال، وفي هذه الحالة تبقى قوانين هذا العالم على حالها. أو أن الحدث قد وقع فعلاً وينتمي بشكل كامل إلى الواقع. غير أن هذا الواقع محكوم بقانون لا نعرفه (…) مع الاحتفاظ باحتمال أننا لا نتعرض اليه الا نادراً. الفاطاستيكي لا يشغل غير هذه الوهلة من الشك. وحالما نختار واحدة من بين الإجابتين فإننا نغادر الفانطاستيك للدخول في نوع مجاور هو الغريب أو الخارق. فالفانطاستيك هو التردد الذي يشعر به الكائن الذي لا يعرف غير قوانين طبيعيّة أمام حدث يبدو في الظاهر فوق طبيعي». 1

الفانطاستيك في الملعون المقدس

يستهلّ محمد إقبال حرب روايته على معالم عالم حقيقيّ وواقعي تتحرّك فيه الشخوص بين فضاء زماني وآخر مكاني. فيقدم للقارئ أطراً عادية وحدثاً عادياً: حكاية ممرض تجاوز الخمسينيات من العمر، مهاجر سابق، تفرّ منه زوجته، بدين، يغادر محل عمله لينشغل من جديد بضائقته المالية وبحثه عن حلول لهذه الأزمة التي يجرّ إلى داخلها معه ابنته دوران الطالبة بجامعة بيروت. هذه الضائقة التي تستدعي أحداثاً سابقة من ضياع ثروته على يد صديق قديم له سوف يرسل إليه رسالة تحمل له وعداً بإنقاذه من أزمته. عالم حقيقي متكرّر لا غرابة فيه بكل تفاصيل اليومي في مجتمعات تعاني أزماتها الماديّة والأخلاقيّة كما لو أنها قدر لا مفر منه.

 يتوخّى في تقديم شخصية البطل ومن خلالها الأطر الزمانيّة والمكانية سبيل تقنية الزوم وكذلك تقنية الرسم الكاريكاتوري، فيقع التركيز على تلك الجزئيّات المادية والمعنوية، بحيث ينزاح به من شخصية واقعية نموذجية إلى شخصية لا نموذجية قابلة للتحول إلى شخصية سحرية. يقول: «مع أن بطن عرقول يتقدمه دون خجل فهو كرش الوجاهة كما يحلو له أن يسميه»2. بل يتعدى شخصية عرقول إلى العائلة بعامة حيث تقول عنها دوران: «ما هذه العائلة، أب مستهتر غامض وأم هاربة وأقارب تعساء»3.

هذا الرسم لعالم حقيقي يعدّ من ضرورات النص الفانطاستيكي قبل التحوّل إلى وضعية «مستغلقة» كما يقول فاكس «يحب القص العجائبي أن يقدم لنا بشراً مثلنا. فيما يقطنون العالم الذي نوجد فيه إذ بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق على التفسير»4.

يمهد الروائي للتحولات في الحدث باستخدام قاموس الترقب والتوجس والتساؤل وغير المنتظر من الأحداث، ويجري التحول بوصول رسالة مهمة جداً5. هذه الرسالة التي وإن كان عرقول شخصية تؤمن بقوة الحجاب الخارقة فيحرص على تلاوة ما علق بذاكرته في ممارسة طقوسيّة إلا أنها تحدث لديه حالة من الارباك ينسف يقينه وسيشتدّ مع اكتشافه فحواها. لم يغادر بنا الكاتب بعد عالم الحقيقة ولكنه ينزاح بالقارئ عنها رويداً رويداً، فتتضح للقارئ شخصية عرقول السيئة التي تخلّت عن أخلاقها منذ زمن بعيد، بل وغرقت في الموبقات إلى درجة أن ابنته لا تراه بغير عين السخط «سكير لا يشبع، زوج لا ينفع…»6. هكذا يهيئ محمد إقبال حرب قارئه إلى السخط على عرقول واعتبار أن ما سيأتي لعنة يستحقها. يبدأ إذا بتهيئة ما سيكون من أمر بطل الرواية ستشرحه الرسالة المقبلة من صديق عرقول القديم في الصفحة السادسة والسابعة.

تحدث لعرقول حالة صدمة ولكن هذه الحالة لا تغادر بعد عالم الحقيقة إلى الخيال. فهي أشياء تحدث. ولكن التوتر سوف يشتدّ بوصول عرقول إلى الوجهة المحددة. هنا تبدأ رحلة الارباك والتوتر. فالمكان معزول ولا يشي بثراء فاحش ولا بأهمية تجعله مكاناً مراقباً كما جاء في الرسالةيلج البطل إلى الداخل وتبدأ سلسلة التحوّلات المربكة التي تستعصي على التفسير الواقعي والمنطقي والعقلاني والمعقول التي سوف تخرج البطل من حالة اليقين إلى حالة الشك والإرباك ومعه القارئ وهذه اللحظة بالذات التي فيها يعتمل الشك والتردّد في نفسية البطل كما القارئ هي التي تخرج النص من الفانطاستيك، إلى نوع مجاور هو العجيب والخارق، كما جاء في كلام تودوروف.

الخارق في الملعون المقدّس

يدخل عرقول ومعه دوران والقارئ عالماً آخر، عالماً موازياً تتحكم به شخوص خارقة فالصديق يتحول إلى كائن صوتي لا يُرى ودوران تتحول في المكان لتصبح في إطار عجيب وغريب محاطة بكائنات عجيبة وغريبة هي الأخرى. لا يخرج عرقول من سؤال حتى يحاصره سؤال آخر في عملية ركحية تمسرح السرد فيتلاعب الروائي بالأضواء وبالمكان وبالأصوات ويتحوّل قلق الشخصية إلى القارئ فيعيش الأحداث مع الشخوص فيكتشفها ويكتشف ماضيها في عملية استرجاع تشبه إلى حد ما عمليّة الحساب بعد الموت، عبر تقنية السؤال والجواب «تابع سيرتك»7.

لكن القارئ ورغم قاموس الإدانة الذي استخدمه الكاتب إلا أنه يظل قيد الملاحظة ولا يصل إلى حد الإدانة لعرقول مثلاً ولا التعاطف مع دوران. بل لعل مكر الرواية هو أن يخلق النص حالة إرباك شعوري يتورط فيها القارئ باكتشاف أنه قد يتعاطف مع الجلاد وقد يدين الضحية وهو بحد ذاته حالة تغريب للقارئ عن مشاعره المعقولة إلى أخرى على النقيض تماماً.

 تتحوّل الأشياء إلى أضدادها وتقود فيه الأفعال إلى حدود الجنون من فرط خروجها عن التفسير المعقول وابتعادها عن الحقيقة وولوجها مصاف الوهم أو الخيال حيث يصبح عرقول كائناً غريباً ويستوحش في حين تتأنسن الكائنات الأخرى: «حشرات طائرة وأخرى زاحفة تحوم حول الكيان الغريب الذي هبط فجأة على أرض جافة من بادية الشام. المخلوقات تسأل بعضها البعض عن كينونة هذا المخلوق الذي يشبه البشر، تنفذ منه روائح أرقت المخلوقات فيما يصدر أصواتاً لا يعرف مصدرها، تارة من أعلى وتارة من أسفل وأحياناً من جوفه. إنه ثلاثي الأبعاد قالت ذبابة لقومها، فرد ضب متوتر لا بل كائن فضائي أرسله الله عقاباً لمخلوقات البادية بسبب جفاء طبعهم، ضحكت عقرب مجاورة وقالت: أخاف التسمم لئن لدغته»8.

ويختمها بهذا الترافد الصريح بين قصة دوران التي يحمل الطفل نفس جيناتها وهي عذراء وبين القصص الديني. فقصة مريم العذراء وقصة دوران تترافدان من حيث إن النبوءة تتحقق بميلاد طفل من دون أن تكون إحداهما قد حبلت به ومن دون أن يكون قد مسها إنسي. وستجد دوران في داني رفيق المعجزة تبشيراً بغد أفضل. وهنا يجدر الذكر بأن الترافد التصوصيّ أو التناص بعبارة أخرى مكوّن من مكوّنات التقنيات في الأدب «الفانطاستيكي»، إذ هو لا يعمل فقط على استدعاء ارتباك القارئ بل أيضاً على استدعاء ثقافته المتعلقة بكل غريب وعجيب، والقصص الديني يعتبر من أقدم النصوص التي يحضر فيها «الفانطاستيك» بقوة حين التعامل معها تعاملاً أدبياً صرفاً بل لعله ما يمنحها صفة القداسة بحكم خروجها عن منطق البشر إلى منطق الإله والأديان. ولذلك يستخدم الكاتب منذ العنوان مصطلحات تنتمي إلى القاموس الديني حيث اللعنة تقابل القداسة. فالأولى تلتصق بالبشر وبإبليس بينما الثانية ترتفع بالبشر إلى مصاف الأنبياء والملائكة. وحيث يجمع العنوان بين الصفتين المدنس والمقدس ينتقل بالقارئ مباشرة من الواقع إلى الخيال. هذا القاموس الديني قائم في شكله البسيط على الذنب المسبب للعنة وعلى التوبة المفضية إلى القداسة. هكذا يتأرجح عالم الرواية بين عالم سفليّ تكثر فيه المعاصي واللعنات إلى عالم فوقيّ علويّ يكافأ فيه المذنب عند التوبة الخالصة بل أكثر من ثواب التوبة يتخطّى الأمر نحو حدود القداسة. هكذا يخرج الروائي من عالم البشر الخالص ومن عالم الأنبياء الخالص إلى عالم سحري يجمع بين الماهيتين ويتجاوزهما في آن.

«الفانطاستيكي» لنقد الواقع

في الرواية يطرح الكاتب جملة من المواقف من الواقع السياسي والاجتماعي والتردي الذي عليه المجتمعات العربية شعوباً وحكاماً. وليس ذلك بالغريب حين نعلم أن الكتّاب غالباً ما استخدموا «الفانطاستيكي» لتقديم قراءات لواقع أضحى أشد عجائبية من الخيال.

ولعل القضية الأولى التي يطرحها هذا النوع من الكتابة هي مسألة الحرية في العملية الإبداعية ومدى تغوّل الحكام العرب وتضييقهم على شعوبهم سواء من خلال التضييق على حرية التعبير أو التضييق على حريات أخرى أهمها حرية الحياة وإمكانية نقد الواقع خاصة في مجتمعات الحاكم الواحد والصوت الواحد والسياسة الواحدة. ورغم استدعاء الأدب «الفانطاستيكي» إجراء إلا أن الكاتب بوعي أو بغير وعي، لم ينثن أحياناً عن التصريح بذلك. يقول: «هذا السجان تفوّق على كل حكام العرب إذ لم يترك دليلاً واحداً إلا الذي أراد»9. ومن خلال هذا النقد الذي يوجّهه الكاتب للواقع في شموليته يطرح النص الروائي الملعون المقدّس جدلية الصراع بين الخير والشر أو بين النفس الأمارة بالسوء والبصيرة السجينة (ص. 95) الأمارة بالجمال والخير. تلك الجدلية التي تعالجها العلوم الإنسانية وتتبلور خاصة في الكتب الدينية، بل تؤسس لها وتتخذها موضوعة أساسية وجوهريّة لها. ذلك أن ما يميّز الإنسان عن الحيوان حسب الرواية هو البصيرة «التي ترى خلف جدران المادة والعقل الذي يميز بين الخير والشر»10.

فمجتمع رواية «الملعون المقدس» سقط في كل الموبقات من سرقة وتحايل وزنا وخيانة، فكان عرقول خير نموذج لهذا التفكك في المنظومة الأخلاقيّة بحيث لم يتوان لوهلة أن يهمّ باغتصاب الفتاة التي يقدمها له الصوت/ الصديق السجان مقابل حريته الموهومة من دون أن يفكر بإمكانية ألا تكون الضحية أخرى غير دوران التي كان يغتصبها منذ صغرها رغم كونها ربيبته التي اتضح في نهاية الرواية أنها ابنته. فعلاقة عرقول بدوران وممارسته زنا المحارم ليست إلا صورة واستعارة لزنا المحارم القائم بين الحاكم والشعب وبين الساسة والوطن.

لا يقف محمد إقبال حرب عند حدود السياسي والأخلاقي بل تجاوزها إلى نقد المنظومة الاجتماعية وخاصة وضعية النساء من خلال شخصية دوران التي عانت الاغتصاب صغيرة وشخصية العمة التي قضت بكل ما في جسدها من عطوب وأم دوران التي اختارت صوت التمرد والثورة فهربت من عالم عرقول. تحمل دوران كل أسئلة النساء فتتساءل عن الأبوة والأمومة والأسرة وخاصة عن هذه الأعراف التي تكون فيها المرأة دوماً متهمة إذ تقول: «هل أمي ناشز أم أصابها الطغيان كمعظم نساء الشرق فقررت التمرد؟»11.

في الصفحة «118» يقول الكاتب في «الملعون المقدس»: «الحقيقة دائماً غريبة»، هكذا يحملنا النص على التأمل في هذا القول الذي يلخص مدى التغريب الذي طال الإنسان في علاقته بواقعه وبذاته وبحدوده الزمانية والمكانية بل حتى بأخلاقياته وهو تغريب طال حتى الأدب الذي لم يعُد يستوعب غرابة الواقع إلا من خلال الفانطاستيك والغريب والخارق

هذا الاختيار الفني ليس من السهولة بمكان بحيث يحتاج الواقع المعقد إلى أدب أكثر تعقيداً. لذلك كان الادب الفانطاستيكي أدباً يحتاج إلى ثقافة متشعبة بالخوارق وبنفسيات الشخوص والقارئ وبالعملية الإبداعية في علائقها المتشعبة. لعلّ كل هذا يبرر صعوبة التعاطي مع هذا النوع كتابة وقراءة. فهو زاخر بالتفاصيل والسرد فيه شبكة من العلاقات والأزمنة المتداخلة حتى وإن كان خطياً وهو ما نجده في رواية «الملعون المقدس» نموذجاً.

-1 Todorov, Introduction  à la littérature fantastique 1970.

2 – عرقول ص3.

3 – عرقول ص5.

4 – مدخل الى الادب العجائبي. تودوروف. تعريب الصديق بو علام، دار الكلام، المغرب، 1993.

5 – عرقول ص6.

6 – نفس المصدر ص5.

7 – عرقول ص11.

8 – عرقول، محمد إقبال حرب، ص71.

9 – عرقول ص123.

10 – عرقول ص 99.

11 – عرقول ص 127.

 

* تونس – فرنسا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى