أخيرة

عملية الطائرات الشراعيّة.. والتحدّيات الفلسطينيّة

} حمزة البشتاوي*

ركبوا براق الله وانطلقوا لحظة عنفوان الفجر نحو الهدف الأسمى وكانوا أربعة شبان ممتلئين بالأمل والحضور البهيّ. الأول خالد أكر من سورية والثاني ميلود بن الناجح من تونس، وإثنان فلسطينيان لم تكشف أسماؤهم بعد. انطلقوا نحو أوسمة الشهادة كعاصفة حبّ وحنين ولينشدوا نشيد الفدائي بعملية فدائيّة نوعيّة. لم يكن يعلم بها سوى أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة وأربعة آخرين بدائرة محصورة وضيقة جداً. وكان هذا أمراً مقصوداً لمنع أي تسريب للمعلومات. وبحال سُرّبت أي معلومة فالذين يعلمون معروفين بالاسم. وكان أبطال العملية شبه منقطعين عن العالم الخارجي ومشغولين على مدار الساعة بالتدريب والتحضير والتخطيط الذي اتسم بالدقة والحرفية العالية. وأثناء عملية التحضير والتجهيز كان موضوع وزن المنفذ وسلاحه ومعداته وكل ما يتعلق بحمولة الطائرة يُحسَب بالغرام، وبما أن العملية ستنطلق في ليلة باردة ورياح قوية مما يؤدي إلى فقدان الجسم حرارته واحتمال أن تتجمّد أطراف الأصابع فتمت إضافة العسل كمادة ترفع من حرارة الجسم وقوّته وحسم من كمية الذخائر لصالح بعض التجهيزات والمعدات. وهنا طلب منفذو العملية أن يكون الحسم من المعدّات والملابس لصالح زيادة كمية الذخائر التي سوف يحتاجون إليها أكثر حين اقتحام المعسكر. وقبل أقل من 24 ساعة من انطلاق العمليّة التقى القائد والمفكر السياسي فضل شرورو بمنفذي العملية للحديث بالشأن السياسيّ والأوضاع داخل فلسطين والمخاطر والتحديات التي تواجه القضية الفلسطينية (وما أشبه اليوم بالأمس) وكانت تعليمات أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينالقيادة العامةالسيد أحمد جبريل هي أن يُسأل منفذو العملية عن طلبهم الأخير قبل انطلاقهم واستشهادهم الأكثر احتمالاً جراء تنفيذ عملية نوعيّة كهذه وضد ثكنة عسكرية مدجّجة بأحدث أنواع الأسلحة والتحصينات وتم التأكيد على تنفيذ أي طلب يطلبونه مهما كان شخصياً أو عاماً. وقد شطح الخيال وتزاحمت التوقعات حول ما يمكن أن يكون الطلب الأخير وعندما سألوا أجابوا بابتسامة وطلب الدعاء بالتوفيق والنجاح، وأما خالد أكر فقد كان طلبه الأخير زجاجة مياه غازيّة ومعها علبة بسكويت وابتسامة لم تفارقه أبداً.

وفي تمام الساعة الحادية عشرة من ليلة 24/11/1987 انطلق سرب الطائرات الفدائيّة باتجاه معسكر (غبيور) أو ما يُسمى معسكر الابطال التابع إلى لواء جولاني الذي يضمّ قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي وفيه مقر قيادة المنطقة الشمالية. وقد استطاع خالد أكر بدقة وقوة ورشاقة عالية الدخول إلى المعسكر والاشتباك مع الجنود الإسرائيليين الذين أصابهم الهلع والخوف حتى أن بعضهم قال بعد انتهاء العملية لم أكن أسمع سوى صوت البكاء من زملائي وقد استمرّت المعركة قرابة الساعة والنصف ولم تنته هذه المعركة بين خالد أكر وقوات النخبة في المعسكر إلا بعد تدخّل قوات إضافية براً وجواً واستشهاد خالد أكر، وأما رفيقه ميلود بن الناجح نومة وأثناء إقلاعه بطائرته باتجاه نقطة الانطلاق أصيبت الطائرة فهبط بها فوق مرتفعات منطقة عين زحلتا في الجنوب اللبناني وخاض ميلود بن ناجح نومة معركة مع الجنود الإسرائيليين وعناصر مَن ما كان يعرف بجيش لحد التابع للجيش الإسرائيلي وظلت المعركة مستمرّة ولم تتوقف إلا حين استشهاده.

وبعد انتهاء العملية صرّح الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بأن مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة مزوّدين بطائرات شراعيّة وأسلحة متطورة وقنابل وكواتم للصوت اقتحموا معسكر غبيور، حيث وقعت خسائر فادحة وقتل وجرح 36 جندياً وجندية بينهم عدد من الضباط.

ثم عاد وأعلن عن سقوط ستة قتلى.

وكان لهذه العملية التي أطلق عليها اسم عملية شهداء قبية تحولات كبرى سياسية ومعنوية في الصراع مع الاحتلال وقد قيل الكثير عن العملية وتأثيراتها.

ولكني في هذه المقالة سأذكر ما أخبرني به بسام أبو شريف حين التقيته في بيروت عام 2015 بأن هذه العملية أنقذت القضية الفلسطينية وأعادت حضور القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير على الخريطة السياسية للعالم، فبعدما وضعت القضية الفلسطينية بنداً رابعاً على جدول أعمال القمة العربية في عمان في 8/11/1988 وبعدما أراد بعض النظام الرسمي العربي حرف بوصلة الصراع الحقيقي مع الاحتلال باتجاه العداء للجمهورية الإسلامية في إيران، فإن هذه العملية أعادت النبض للعمل الكفاحي داخل فلسطين من خلال الانتفاضة وإعادت الاتصالات مع منظمة التحرير كرقم صعب في المعادلة السياسية العربية والدولية. وأخبرني بأن الرئيس ياسر عرفات قال له: لولا هذه العملية النوعية الفدائية المميّزة لكانت القضية الفلسطينية قد شطبت عن جدول أعمال واهتمام بعض الدول والقيادات التي فرضت عليهم هذه العملية الوقوف أمام بسالة وشجاعة الفدائيين الذين لم يتأثروا بالأخطاء السياسية الفادحة، وإضافة لهذا الحديث فقد لاقت عملية الطائرات الشراعية تقديراً واهتماماً واسعاً بسبب ما حملته من تطور نوعيّ وشجاعة نادرة. وقالت وقتها صحيفة (الأوبزرفر) البريطانية إنها المفجر للانتفاضة الأولى والتي عرفت بانتفاضة الحجارة. وكانت العملية هزةً أرضية أصابت جيش الاحتلال.

واليوم نواجه نحن هزات أرضية من نوع التطبيع ونشر ثقافة الإحباط وتبرير الفشل ولا بدّ من مواجهة هذه الهزات والتحديات بالعودة إلى خيار المقاومة والانتفاضة وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وإعلاء صوت النشيد الفدائي وعلى كل الأرض الفلسطينية وبكافة الوسائل المتاحة بما يرسم صورة حقيقة وواضحة الملامح لفلسطين القضية والأرض والإنسان. وإذا لم نعد لتلك البدايات فإن النهايات ستكون قاسية وصعبة جداً.

 

*كاتب وإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى