الوطن

لهذه الأسباب طفت إلى السطح عيوب النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة وتراجعت سطوتها وقدرتها على شنّ الحروب

} حسن حردان

طالما كانت عيوب النظام الرأسمالي الأميركي قائمة وموجودة منذ نشأة الولايات المتحدة على أنقاض سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر، لكن هذه العيوب خبَت ولم تكن ظاهرة على السطح بسبب حالة الازدهار والبحبوحة التي نعمت بها الإمبراطورية الأميركية بفعل تربّعها على عرش الاقتصاد العالمي، والذي ينبع من عاملين أساسيين..

العامل الأول، خروجها من الحرب العالمية الثانية أقوى دولة اقتصادية في العالم والأكثر تطوّراً وتقدّماً على كلّ المستويات، مما مكّنها من السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي وكذلك على النظام المالي الدولي ومؤسساته المتمثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين، وفرض تسعير النفط والغاز والثروات الأساسية المستخرجة من باطن الأرض لا سيما الذهب بالعملة الأميركية الدولار الذي تحوّل إلى عملة عالمية ويتكوّن منها الاحتياط الأساسي للمصارف المركزية للدول

العامل الثاني، حلول أميركا مكان الدولتين الاستعماريتين الآفلتين، بريطانيا وفرنسا، في فرض الهيمنة الاستعمارية في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وخصوصاً في الشرق الأوسط والدول العربية واستحواذها على ثراوت الدول الخاضعة لهيمنتها الاستعمارية

هذان العاملان أسهما في تمكين الإمبراطورية الأميركية من تحقيق الازدهار ومستويات عالية من المداخيل المالية تتجاور بكثير تلك المحققة من حصة أميركا من الناتج العالمي والتي تجاوزت الخمسين بالمئة في المرحلة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانيةمما حقق للولايات المتحدة نتيجتين مهمّتين..

النتيجة الأولى، تحقيق أعلى دخل للفرد في العالم وبالتالي بلوغ ما سُمّي الحلم الأميركي من ناحية العيش برفاهية، مما أدّى إلى الحدّ من حدة التناقضات الطبقية والاجتماعية، وغطى على واقع التمييز العنصري وغيرها من التناقضات التي يحتوي عليها المجتمع الأميركي الملصق أساساً من أعراق وأقوام متعددة في ظلّ هيمنة العرق الأبيض الذي يتركز فيه معظم الطبقة الغنية والمتحكمة بمراكز القرار الاقتصادي من كارتيلات نفط وغذاء وسلاح إلخ

النتيجة الثانية، توافر احتياط كبير من العائدات المالية مكن أميركا من توظيفها في تطوير الاقتصاد والأبحاث العلمية وتشجيع الاختراعات التي جعلت أميركا تحتلّ المركز الأول في براءات الاختراع في المجالات المتعددة، والتي مكّنتها من تعزيز تحكمها بالاقتصاد العالمي.

كما مكنت العائدات المالية الضخمة من الاستثمار في صناعة السلاح المتطوّر والتحوّل إلى الدولة الأولى في بيع وتجارة السلاح في العالم.. وبالتالي شنّ الحروب وتعزيز الهيمنة الاستعمارية الأميركية.

لكن عوامل الازدهار وحياة الرفاه والمداخيل المرتفعة بدأت تتراجع منذ التسعينات من القرن الماضي، حتى بلغت أدنى مستوياتها مع انفجار الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008، على خلفية عدد من العوامل، أهمّها

العامل الأول، تراجع هيمنة الاقتصاد الأميركي على المستوى العالمي وتدنّي حصة أميركا من الناتج الدولي إلى نحو النصف، أيّ من نحو 50 بالمئة، الى حوالي 25 بالمئة وما دون، وذلك نتيجة اشتداد المنافسة الدولية واحتلال العديد من الدول الناشئة اقتصادياً مساحة من السوق العالمية، وتأتي الصين في طليعة هذه الدول

العامل الثاني، ازدياد الدين العام الأميركي على خلفية التكاليف الباهظة للحرب في العراق وأفغانستان، التي استنزفت الجيش الأميركي بفعل المقاومة المتواصلة والضارية التي واجهته، حيث قدّرت التكاليف بنحو 6 تريليونات من الدولارات، الأمر الذي جعل الدين الأميركي يقفز إلى نحو 17 تريليون دولار متجاوزا لأول مرة الناتج القومي الأميركي المقدّر في حينه بنحو 15 تريليون دولار، مما أدّى الى خسارة واشنطن الرهان على هذه الحروب لحلّ أزمتها المالية من خلال السيطرة على ثروات واحتياطات النفط الهامة وطرق إمدادها في العراق وآسيا الوسطى لا سيما في بحر قزوين، ومحاصرة روسيا والصين وتحجيم قدرتهما على إضعاف الهيمنة الأميركية.

لقد أدّى إخفاق حربي العراق وافغانستان في تحقيق أهدافهما، إلى ما يلي:

1- تراجع السطوة الاستعمارية الأميركية وازياد تجرّؤ الدول التواقة للتحرّر من الهيمنة الأميركية على التصدّي لها ورفض الخضوع لإملاءاتها، وتوافر الظروف المواتية لكلّ من روسيا والصين لأجل تعزيز نفوذهما في الساحة الدولية على حساب الأحادية الأميركية، واستطراداً تعزيز التحالفات الدولية الساعية لإسقاط الهيمنة الأميركية على النظام الدولي لمصلحة إقامة نظام متعدد الأقطاب..

2- إسدال الستار على مرحلة الازدهار والرفاهية التي كان ينعم بها النظام الرأسمالي والمجتمع الأميركي، وبداية مرحلة غرق أميركا في الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، وتراجع الحلم الأميركي، وعودة التناقضات والعيوب التي يعاني منها المجتمع لتطفو على السطح، وهو ما تجسّد أخيراً في عودة التمييز العنصري إلى الواجهة بعد أن اعتقد قسم كبير من الأميركيين انه قد تراجع وفي الطريق للتخلص منه

3- تراجع الإمكانيات المالية وغرق أميركا بالدين الذي بلغ عام 2020 نحو 23 تريليون دولار، انعكس بتراجع قدرة الإدارات الأميركية على شنّ الحروب المكلفة، واضطرت، منذ إدارة أوباما إلى التوقف عن شنّ الحروب والعمل على الانسحاب من العراق وافغانستان، واستبدال الحروب المباشرة المكلفة والفاشلة، بالحروب غير المباشرة، ايّ الحروب الناعمة والحروب بالوكالة، ولهذا شهدنا في عهد أوباما تفجير ما سُمّي الربيع العربي وبث الفوضى في المنطقة وشنّ الحروب الإرهابية لتفكيك أنظمة وتجديد شبابها، ومحاولة إسقاط أنظمة ترفض الهيمنة الأميركية وإقامة أنظمة بديلة تابعة لواشنطن.. كما شهدنا إقدام إدارة أوباما على توقيع الاتفاق النووي مع إيران لانسداد الأفق أمام شنّ الحرب ضدّها وفشل سياسة الاحتواء المزدوج والعقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها لتغيير السياسة الإيرانية وتغيير نظام الجمهورية الإسلامية

4- أدّى ظهور وباء كورونا وانتشاره إلى زيادة حدة الأزمة الاقتصادية والمالية وانكشاف حجم تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وعجزها في مواجهة الجائحة على الصعيدين الداخلي والخارجي، في مقابل تقدّم الدور القيادي لكلّ من الصين وروسيا وكوبا في تقديم المساعدة للدول المنكوبة بالوباء مثل إيطاليا وإسبانيا وايران.. وهو ما أشارت إليه مجلة «فورين بوليسي» الأميركية

5- أسهمت سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عزلة أميركا على الصعيد الدولي لا سيما في مجلس الأمن بعد الانسحاب من الاتفاق النووي واتفاقية المناخ ووقف مساهمات أميركا في منظمات الأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية، ووكالة الأونرواكما أسهمت سياسات ترامب في توتير العلاقات الأميركية الأوروبية.

انطلاقاً ما تقدم، يمكن تفسير خسارة الرئيس الأميركي للانتخابات الرئاسية، وفوز مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، وإقدام الأخير على تشكيل فريق إدارته لتولي ردّ الاعتبار للدور الأميركي وإصلاح ما أحدثته سياسات ترامب، على كلّ المستويات الداخلية والخارجيةعلى أنّ إدارة بايدن ستكون أمام مواجهة فشل الحروب الإرهابية في سورية والعراق والتي بدأت في عهد أوباما واستمرت مع ترامب.. فهذه الحروب فشلت في تعويم الهيمنة الأميركية في العراق وإسقاط الدولة الوطنية السورية وعزل المقاومة في لبنان وفلسطين، كما فشلت في عزل إيران.. في حين انّ تشديد سياسة الحصار والعقوبات لم تؤدّ إلى إخضاع دول وقوى المقاومة.. فهل تقرّ إدارة بايدن بفشل هذه السياسة، وتعمد إلى التكيّف مع موازين القوى الجديدة المتولدة من فشل الحروب الإرهابية والاقتصادية، وتكون البداية بالعودة الى الاتفاق النووي مع إيران التي ترفض إدخال أيّ تعديلات عليه، وتشترط إلغاء العقوبات التي فرضها ترامب؟

هذا ما ستتضح الإجابة عليه، بعد تسلّم إدارة بايدن مقاليد السلطة في البيت الأبيض في 20 كانون الثاني المقبل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى