ثقافة وفنون

«وجه رجل وحيد» لمهدي زلزلي… روح العصر وتصدّع جدارها

} عبد المجيد زراقط

« وجه رجل وحيد»، لمهدي زلزلي مجموعة قصص قصيرة صدرت، مؤخراً عن دار الفارابي. تفيد قراءة هذه المجموعة التي تتضمَّن ثلاثين أقصوصة، أنَّ الإهداء يمثِّل دالَّاً على القضيّة المركزيَّة فيها، فالمؤلِّف الذي يعي ذلك، كما يبدو، يهدي مجموعته الى الذين عناهم جلال الدِّين الرُّومي بقوله: «رأوا جدار الروح يريد أن ينقضَّ، فأقاموه، ولم يفكِّروا في أن يتَّخذوا عليه أجراً».

يمثِّل هذا القول إهداءً وتصديراً عتبة تُقرأ المجموعة في فضاء دلالته، وهي تصدُّع جدار الروح، والروح المعنيَّة هنا هي روح العصر التي يعيها الأديب في حياة أمَّته، فيتمثَّلها، ويمثِّلها نصوصاً ناطقة برؤية اليها كاشفة .

في إطلالة سريعة على الأقاصيص وشخصياتها، نلحظ هذا التصدُّع واضحاً، فـ»البيك» كان يعبث بأرواح البشر ومشاعرهم وأحلامهم، و»أمين» لم يفوِّت يوماً واحداً من دون إراقة دماء، ومن يجد نفسه في فراش شقيقة صديق طفولته يجد أن ليس أصعب من إحساسه بالحقارة، والمرأة تشعر بأنها، في حياتها المعيشة، «مدعوسة»، وان كانت «أيقونة « في الظاهر، ولا يقبلها المجتمع الا اذا «استرجلت»، واستبدَّت، والفلسطيني لا مكان له، والمبدئي ينتهي الى موت مجاني يثير السخرية، والمقاوم في صورة احتفظ بها من طفولته، تحوّل الى مقاول خدمات فاسد قذر، وأصل الحكاية في هذا المجتمع تربية توصل الى السجن

قدَّمت هذه الإطلالة السريعة نماذج دالّة على أصل حكاية هذا المجتمع، ما يثير أسئلة، منها: من أين أتى «وجه رجل وحيد» / عنوان المجموعة ؟ ومن هو هذا الرجل؟ وما هي هويته؟ ودلالته؟

نعود الى قصص المجموعة، لنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة .

في سبيل الإجابة، نلتقي اشارات الى هذا الرجل في أقاصيص عدَّة، منها: اقصوصة «بعد عشرين عاماً» ؛ حيث تسرف المرأة في امتداح فحولة رجلها، وتصفه بـ»رجلها الوحيد منذ هذه اللحظة « (ص. 16) . وأقصوصة «ابتسامة على وجه رجل وحيد» ؛ ففيها يسأل الرجل: «كيف له، هذا الرجل الوحيد، أن يجد امرأة تتفهَّم حاجته الى الوحدة، وتغفر له انصرافه المفاجئ عنها، فلا يجرحها بغيابه أكثر ممَّا أسعدها بحضوره» (ص. 20). وأقصوصة  «رجل يستحقُّها»، فالرجل فيها يقول: «يعرف أنَّه لو طلب روحها فلن تبخل بها عليه، ولا يطلب شيئاً، هو الرجل الوحيد الذي يستحقني في هذا العالم» (ص. 82). وأقصوصة «ظروف غير غامضة»، وفيها تقول المرأة: «وعندما تركني الرجل الوحيد الذي أحببته بصدق، وأخلصت له، وصنعتُ من نفسي امرأة أخرى من أجله … « ( ص. 90) .

تجيب هذه الدوالّ عن الأسئلة التي طرحناها اَنفا، والاجابة هي: انَّ الرجل الوحيد هو الرجل «الفحل» الذي ترى المرأة أنه الرجل الوحيد في هذا العالم الذي يستأهلها، وأنها تحبُّه بصدق، وتجعل من نفسها امرأة أخرى من أجله، ولكنه يتركها، بعد أن ينعم بوصالها، ويعدُّ ذلك إسعاداً لها ورجولة يفخر بها.

هذا النزوع، عند مثل هذا الرجل، نجده في قصص أخرى عدّة، منها قصة «في مديح الندم «، فالمرأة، في هذه القصة، أحبَّت رجلها الوحيد بجنون، ولم يكن هو يرغب الاَّ في كسر كبريائها، ما حوَّلها الى امرأة بائسة تثير الشفقة (ص. 37).

تذكِّر هذه الحالة النَّرجسية / السَّادية التي يعيشها الرجل، في علاقته بالمرأة، بحالة عاشها رجال اَخرون من قبل، وعبَّروا عنها أدبيَّا. من نماذج ذلك ما أنشده جميل بثينة، الشاعر العذري المعروف، قبل أن يعشق بثينة، ويصبح هو الساعي الى المرأة الوحيدة، فقد جاء في إحدى قصائده :

– …  أعاتب من يحلو، لديَّ، عتابه / وأترك من لا أشتهي، وأجانبه .

ومن لذَّة الدُّنيا، وإن كنت ظالماً / عناقك مظلوماً، وأنت تعاتبه».

جميل بن معمر الذي صار جميل بثينة، هنا، هو الرجل الوحيد ينتقي الجميلات، ويجد لذَّة الدنيا في أن يظلمهنَّ، وفي أن يعاتبهنَّ، وهو يعانقهنَّ !

أرأيت تصدُّعا في جدار الروح أكثر من هذا التصدُّع الذي يعيشه الرجل الوحيد!؟

يبدو أنَّ هذا الرجل لا ينعم بإحساسه بالتفرُّد والتحكُّم طويلاً، فكما جميل الذي لم تعد خيوط اللعبة بيده، لم تعد خيوط اللعبة بيد الكثير من شخصيات هذه الأقاصيص، فـ»البيك» الذي كان يعبث بأرواح البشر وأرزاقهم، غدا لعبة تتناوب الخادمتان على العبث بشنبه، الشاهد الوحيد على زمن كان فيه الممسك بخيوط اللعبة، وأمير الحرب القاتل يُقتل، والمرأة التي تمّ العبث بها أمسكت هي خيوط اللعبة، فصارت تعطي الرجال الذين يظنُّ كلٌّ منهم أنه الرجل الوحيد، من طرف اللسان حلاوة، ثم تلفظه لفظ النواة، وتلاقي في إذلاله لذة لا تعادلها لذة أخرى (ص. 72).

الرجل، هنا، وليس المرأة فحسب، تدلُّ عليهما أسطورة «ميدوزا» التي استحضرها القاص في إحدى أقاصيصه، ولكن في دلالة أخرى، فـ»ميدوزا» كانت امرأة فائقة الجمال، ارتكبت الخطيئة في معبد الاَلهة، فحوّلتها الى امرأة قبيحة شعرها كثيف، خيوطه ثعابين تقتل مَن يقترب منها، وبقيت تمارس القتل الى أن جاء برسيوس وخلص، بمساعدة هرمس، الناس منها.

فهل نحن بحاجة الى أمثال هذين المخلصين، لنتخلص من أفاعي ذوي الروح المتصدِّعة؟ وهل هذا هو السؤال الذي تثيره هذه الأقاصيص ضمن الأسئلة الأخرى التي تثيرها؟

السؤال الاَخر الذي يُطرح هنا هو: أيُّ عالم هو هذا العالم الذي يريد فيه إنسانه، رجلاً كان أو امرأة، أن يكون الوحيد، وأن يأكل في الاتجاهين كالمنشار ( ص. 77)، وان يجد لذة الدنيا في الغرق في الفساد والاستبداد وظلم الاَخر وإذلاله؟ والسؤال الاَخر هو: هل يمكن للمختلف أن يعيش في هذا العالم؟ تجيب أحدى الأقاصيص أن لا. يعيش المختلف غريباً، ويموت غريباً، مقهوراً، ويسخر الناس من ميتته، ويقولون: مات من أجل رطل لحم، وموته كان بسبب وعيه روح عصره، وإحساسه بالعجز حتى عن الاحتجاج على الغش الجلي الواضح .

تلتقط هذه الأقاصيص لحظات من الحياة معيشة، يمكن أن نسمِّيها اللحظات المهمة الكاشفة روح العصر، وتمثِّلها نصوصاً قصصية قصيرة، تتَّصف بخصائص هذا النوع الأدبي، ليس من حيث الحجم القصير فحسب، وانما من حيث الزمن القصير الذي لا يتعدَّى في الغالب دورة شمسية كاملة، وهذا هو المكوِّن الأساس للقصة القصيرة، لأنَّه يحكم باقي المكوِّنات، من جعل الشخصيات قليلة، والإشارة اليها بالضمائر، او بالصفات الدالة، والتقاط الحدث الدال / التفصيل الكاشف، واستخدام تقنيات في أدائه تجعل الأزمنة متداخلة، والتكثيف اللغوي: جمل قصيرة، لا يخلو بعضها من شعرية، يستحضر الحضور فيها الغياب/ المسكوت عنه، المتروك تبيُّنه للقارئ الشريك في الإنتاج، والنهايات المنيرة

هذا النوع الأدبي، على الرغم من صعوبة الإجادة فيه، كما أجاد مهدي في هذه المجموعة المتميزة، مغبون، وقد التقط القاص الذي تفيد قراءة قصصه أنه قارئ نصوص لكتاب، من الأدب القديم كابن حزم، ومن الأدب الحديث كأنسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا وحنا مينة، التقط ما ينتظم في كشف روح العصر، فجاء على لسان المرأة الجميلة التي يسعى الرجال الى نيلها، قولها للقاص الذي اختارته: يكفي أن تعرف أن الناشر سخر منك، ومن القصة القصيرة، وقال : «انك اَتٍ من زمنٍ اَخر. أيُّ ناشر يخاطر بنشر مجموعة قصصية على نفقته في العام 2016 !؟ لو جاء دستوفسكي نفسه يطلب هذا لرددته خائباً!» (ص. 85).

يبدو واضحاً أنَّ مهدي زلزلي استطاع أن يعي روح العصر، وأن يتبيَّن تصدُّع جدار الروح الإنسانية، وأن يمثِّل ما تبيَّنه في نصوص قصصية قصيرة ناطقة بدلالات حاولنا كشفها، ويمكن لقارئ اَخر أن يكشف ما يراه هو، فالنص الأدبي الجيد عالم يظل في حاجة الى الكشف.

 

*أستاذ جامعي وناقد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى