أولى

تركيا والغرب: صدام أم ترويض؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

من يراقب حركة تركيا في الفترة التي أعقبت الانتخابات الأميركية يجد انّ أردوغان يتصرّف وكأنه في سباق مع الوقت ويريد أن يقفل ملفات او يستجمع أوراقاً الى اقصى ما يمكنه جمعه قبل حلول الحاكم الجديد في البيت الأبيض الأميركي، لأنّ أردوغان يعرف أي علاقة تربطه بهذا الحاكم ويعرف مدى التباين بين المشروع التركي الخاص الذي يعمل من أجله والمشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والذي تعمل عليه بشكل واضح منذ العام 2010 في ظل حكم الديمقراطيين لأميركا وبوجود بايدن نفسه في مقعد نائب الرئيس الأميركي.

وهنا نتذكر بأنه عندما اندفع أردوغان في العام 2011 في قيادة العدوان الإرهابي على سورية تنفيذاً لخطة أطلسيّة بقيادة أميركية ظن أن الغرب والحلف الاطلسي الذي ينتمي اليه فوضه بحكم المنطقة وإقامة او استعادة الإمبراطورية العثمانية البائدة التي كان «الحلفاء» الأوروبيون قد أنزلوا الهزيمة بها وتقاسموا ممتلكاتها ومناطق احتلالها في غربي آسيا خاصة وكامل الشرق الأوسط بالمصطلح الغربي عامة.

تصرف أردوغان في سورية، ومنها في كامل المنطقة منذ اندلاع الحريق العربي (يسمّيه الغرب «ربيع عربي» ) تصرف على أساس انه سلطان المستقبل وبهذه الذهنية انقلب على تفاهماته وتوافقاته الاستراتيجية مع سورية وقاد العدوان الإرهابي عليها. وهنا كان التباين المستتر والخفي بين الظن التركي والتكليف الغربي الأطلسي، ففي حين عمل أردوغان بذهنية العمل لاستعادة سلطنة غابرة، كان الغرب يريد من أردوغان لعب دور رأس الحربة والقائد الميدانيّ لإسقاط محور المقاومة وتفكيكه من البوابة السورية التي تشكل القلعة الوسطى لهذا المحور، هدف تحتاجه أميركا من أجل إقامة النظام العالمي الأحادي القطبية وتعويض الإخفاق الذي عانت منه في افغانستان والعراق ولبنان.

وعلى هذا الأساس كانت الحرب الكونيّة التي استهدفت سورية منذ العام 2011 موضع تباين في النظرة من كل من الجانب التركي والاطلسي، وكانت عرضة للتنازع الخفي بين مشروعين، مشروع تركي يقوده أردوغان الحالم بإزالة آثار الهزيمة التي انزلت بالعثمانيين في الحرب الأولى، ومشروع أطلسي بقيادة أميركية جوهره تثبيت انتصار الغرب في الحربين العالميتين وتدمير القوى المقاومة للاستعمار والسيطرة الغربية وإنتاج بيئة تصفية القضية الفلسطينيّة، ويلتقي هذان المشروعان في سورية بشكل خاص على هدف إسقاط النظام السوري بقيادة الرئيس الأسد، لكنهما يتنافران بدرجات متفاوتة في أكثر من مكان وإقليم.

بيد أن أردوغان عندما فشل في سورية في موجة العدوان الأول عليها في سياق ما أسميناه يومها «استراتيجية الاخوان المسلمين للسيطرة على سورية»، وجد نفسه عرضة لسحب التفويض الغربي منه ونقله الى السعودية التي جرّبت حظها مع سورية في سياق ما أسميناه «خطة بندر»، الخطة التي لم تكن أفضل حظاً من خطة الاخوان، والتي انتهت الى فشل دفع أميركا الى النزول مباشرة الى الميدان وإنشاء تحالف عسكري بقيادتها بعد ان اصطنعت المبرر ودخلت في المرحلة الثالثة من العدوان على سورية والعراق هي «مرحلة داعش».

لم يكن أردوغان مرتاحاً للشعور الذي تشكل لديه نتيجة الفشل والإحساس بالتهميش الغربي له، واغتنم فرصة مدّ اليد الروسية والإيرانية له وانتظم في ثلاثي آستانة المشكل لمعالجة الوضع السوري ميدانياً، ورأى انّ ذلك يمنحه الوقت للمناورة الزئبقية ويتيح له العمل بطلاقة أكثر لتنفيذ مشروعه الخاص في سورية ومنها لنشره في الإقليم بعيداً عن المحدّدات او القيود الغربية. وقد نجح أردوغان في استثمار موقعه في استانة إلى حد بعيد ورغم التباين مع قطبي استانة الآخرين إيران وروسيا في أكثر من موضوع فقد بقي على علاقة معهما لا تتصف بالحميمية لكنها غير صدامية، علاقة يحتاجها من أجل مشروعه الخاص كما ذكرنا.

لقد مارس أردوغان مع كلّ من عمل معه في الشرق والغرب بسياسة سمتها الرئيسية الزئبقية المتقلبة، بحيث انه لم يجد نفسه مضطراً للإيفاء بوعد او لتنفيذ عقد او عهد وعمل بنَفَسٍ ميكافيليّ خالص باعتبار «انّ الغاية تبرر الوسيلة». وظنّ انّ «ذكاءه النشط» يجعله يحقق أهدافه من دون أن يعرضه الى أيّ خطر جدي، أي انه يخدع الآخر ويجعله يعطيه ثم يسكت على عدم الأخذ المقابل، معتقداً انّ الآخر بحاجة الى صداقته او على الأقل عدم عدواته نظراً لموقعه وتأثيره في المسرح الاستراتيجي الذي يتحرّك فيه.

بيد ان الأمور الآن وصلت نقطة لا يستطيع شركاء تركيا في الملفات المشتركة السكوت عنها أو مداراة تركيا فيها، ما جعل الانتصارات او الإنجازات التركية السابقة عرضة للنقض او الانهيار، وقد أحس أردوغان بالخطر الآتي واستشعر الحاجة لتدابير سريعة تحصّن وضعه ولهذا نراه الآن:

ـ يعود الى مغازلة أوروبا من الباب الألمانيّ بعد التهدئة مع اليونان لتجنب المواجهة الحادة مع أوروبا بعد أن وصلت علاقته بفرنسا وبماكرون شخصياً الى أدنى وأسوأ مستوياتها، وهو يظن بانّ ألمانيا التي ليس لها طموحات شرق أوسطية أقله حالياً لن تكون له منافساً في مشروعه الخاص، ويريد من أوروبا الآن أن تكون الظهير الاحتياطي الذي يعوّضه بعض الشيء عن الحضن الأميركي الذي يخشى برودته وجفافه مع بايدن.

ـ يسرع في تقويض الكيان الكردي الانفصالي في شمالي شرقي سورية قبل أن يصل بايدن الى البيت الأبيض، لأنه يعرف بأن مشروع بايدن هناك يقوم على استراتيجية التقسيم وإقامة الكيان الكردي المستقل أو شبه المستقل برعاية أميركية صهيونية، الامر الذي يخشى منه أردوغان لأنه يرى فيه مسّاً بالأمن القومي التركي.

ـ يعيد انتشار قواته في إدلب بشكل يخفض تداخلها مع الجيش العربي السوري على خطوط التماس ويقيم الخطوط والمواقع الحصينة المدعومة نارياً بشكل فاعل ليمنع أي محاولة سورية روسية لاستعادة المنطقة عسكرياً بعد فشل المحاولات جميعها لاستعادتها عبر منصة استانة واتفاقات سوتشي وموسكو.

ـ يهدّئ الصراع الذي فجّره في أذريبجان ويكتفي حالياً على حدّ وصفه بـ «الإنجاز الذي حققه في ناغورني كارباخ«، متوعّداً بالمزيد عندما تسنح الفرص.

بالخلاصة نرى أردوغان الآن في مرحلة مراجعة مواقفه بحثاً عن إجراءات متطورة من المشروع الغربي من اجل صياغة مشروع وسط في المنطقة يجمع العناصر الرئيسية للمشروع التركي العثماني الخاص والمشروع الأطلسي الأميركي، بحيث يحدّ من وجوه التناقض او التنافر بينهما ويمنع الاحتكاك او التناقض مع الغرب وبشكل لا يبقى مبرراً له لاتخاذ المواقف الحادة منه وصولاً الى فرض العقوبات الغربية على تركيا، كما حصل الآن. فهل ينجح أردوغان في سعيه هذا؟

قبل الإجابة نذكر بأنّ الحلف الأطلسي الذي أسّسته 12 دولة أوروبية وأميركية قبل تركيا فيه ليس حباً بها أو خدمة لها بل نتيجة إحساسه بأن تركيا تستطيع ان تقوم بوظيفة ودور أساسي في خدمة مهمة الحلف الدفاعية وأهدافه في وجه الاتحاد السوفياتي وأراد المؤسسون امتلاك قاعدة عسكرية متقدّمة تشكل جزءاً من الستار الحديديّ الذي اقامه الغرب في وجه الشيوعية، وبالتالي كانت عضوية تركيا في الحلف الأطلسي ناشئة من حاجة أطلسية لتركيا للقيام بدور وظيفي عملاني واستراتيجي، ولهذا جذب تركيا إليه كأول دولة بعد تأسيسه في العام 1949، وقبلها في عضويته في العام 1952 من أجل هذا الدور الوظيفي ولم يقبلها من أجل أن يمنحها فرصة منازعته النفوذ.

فتركيا في الأطلسي لخدمة أهداف الدفاع عن أوروبا أصلاً ولخدمة الأهداف الأميركية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي حاضراً وليست من أجل استعادة الإمبراطورية العثمانية التي أسقطتها أوروبا، وعليه فانّ أيّ عمل او محاولة توحي بأنّ أردوغان يعمل في سبيل ذاك الهدف لن تلقى من أوروبا والأطلسي الا الرفض والمواجهة. فالغرب الذي قاسى الكثير من دولة بني عثمان لن يقبل بسهولة إعادة إحيائها بأيّ شكل وبأيّ صورة. وبالتالي لا مجال للمواءمة بين الطموح الأردوغاني والنزعة الغربية وهما أمران متناقضان. وهذا ما سيفرض على تركيا الاختيار بين التخلي عن مشروعها الخاص او التخلي عن التوجه غرباً، أما الجمع بين النقيضين فلن يكون ممكناً فأيّ خيار ستختار؟

* أستاذ جامعيباحث استراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى