أخيرة

ذكرياتي مع فيروز (ج. 8)

} رانية مرعي

ليت الطفولة تعودُ يومًا لأخبرَ أصدقائي الذين تسرّبت أصواتهم مع الرّحيل، أنّ صورَهم ما زالت محفورةً في العين.. ولم تكبر !

ولأعترفَ لهم أنّ تلك البداية هي الحقيقة التي ما ندمتُ عليها يومًا.. وأنّي في البعد أزدادُ حبًّا وانتماء !

«سوا ربينا.. سوا مشينا

سوا قضينا ليالينا

معقول الفراق يمحي أسامينا

ونحن سوا.. سوا ربينا «

كنتُ أكنُّ لصديقتي «كارمن» حبًّا يُشبهها.. جمعَنا مقعدٌ دراسيٌّ وأسرار ليتها لم تبلغ سنّ الرّشد..

آخر لقاءٍ معها كانَ في يوم عيد مولدها، رقصنا وضحكنا وعـلى غيرِ عادتنا تركنا في كلّ زاويةٍ من بيتها عناقًا وحفنةَ ذكريات..

وسافرت صديقتي.. تركَتْ مكانها خاليًا وصارَ الانتظار على رصيفِ الغرباء يبهتُ كلّما صار لقاؤنا.. بلا عنوان..

« تاري الأحبة ع غفلة بروحوا

وما بيعطوا خبر

ع غفلة بروحوا. »

وقبلَ أن أستسلمَ لدموعِ الفقدِ التي رسمَت قدري باكرًا على غفلةٍ منّي.. أوصتني جدّتي: «إيّاكِ والبكاء يا صغيرتي.. أرسلي صدى ابتساماتك مع النّسيم ليطمئنَّ الراحلون أنّك قويّة».

حاولتُ أن أواسيَ خاطرَ عيني المكسور.. وفشلتُ..

تركتُ عَبراتي تعاتبُ السّفر..

أمّا كلامُ جدّتي فلم أفهمه إلّا بعدَ فواتِ.. العمر !

لم يُعِد البكاءُ فرحةً هاربة.. ولا خفّفَ من وطأة الحرمان.. هو فقط نزفُ نبضٍ فاضت روحُه على وجنةٍ مخذولة..

« بسكر بابي بشوفك ماشي عالطريق

فكر إنزل أركض خلفك عالطريق

وتشتّي عليي ما تشوفك عينيي

وأنا أركض وراك مدّلك إيديي

وكارمن التي كانت حقيقةً، صارت حكايةً لم تكتمل فصولها.. وأنا كعادتي التي لمّا تتغيّرْ، تركتُ الحزنَ يتلاعبُ بي، وأقنعتُ انتظاري أنّ اللقاءَ لن يخذلنا !

(وفعلًا، أتاني صوت صديقتي بعد خمسٍ وثلاثين سنة بعناقٍ افتقدتُه لسنواتٍ طالت..وطالت).

زارني الغيابُ باكرًا.. حمّلَ طفولتي الغضّة أعباء الحنين.. وسكرات الشّوق..

صرتُ أخافُ التعلّقَ بأحدٍ، أنا التي لا أعرفُ أنصافَ المشاعرَ.. ولا أنصافَ المواقف! عاهدتُ نفسي ألا أصدّقَ وعدَ الرّجوع.. ولأنّي أتقنُ الوفاء.. جنّبتُ نفسي أكاذيبَ لحظةِ الوداع.. وصممتُ أذنيّ عن آهات الوجد المنكوبة..

« أمس انتهينا فلا كنّا ولا كانَ

يا صاحبَ الوعدِ خلِّ الوعدَ نسيانا

كان الوداعُ ابتسامات مبلّلةً

بالدّمع حينًا وبالتّذكار أحيانا

كبرتُ وعلى حائط غرفتي إطارات بلا صور! حجزتُ أمكنةً لكلّ من سأودّعهم.. ولم يبقَ منهم إلا ابتسامة.. مَن يدري إن كانت حقيقيّة أو آخر مواسم الفرح !

مرصودةٌ أنا للوداع ! هذا سرّي مع الحياة.. ومن «كارمن» إلى «أثير» و«تمارا» ودّعَت فيروز معي الكثيرين..

ويا خوفَ فؤادي من غدي !!

« يا طير وآخد معك لون الشجر

ما عاد في إلّا هالنطرة والضجر

بنطر بعين الشمس ع برد الحجر

وملبّكي وإيد الفراق تهدّني

            (يتبع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى