أولى

مكر الغرب ودهاؤه

  د. عدنان نجيب الدين

لا يختلف الاستعمار الغربي في محاولاته لإخضاع الشعوب ونهب خيراتها عن أيّ فيروس يطوّر نفسه لكي يصارع كلّ المضادات الحيوية ويبقى على قيد الحياة ليفتك بجسد الشخص الذي يصيبه، هكذا يفعل الغرب.

لقد طوّر عقله الإمبريالي للسيطرة على الشعوب، ولم يعد يفكر في الحروب التي يُقتل له فيها جنود، فلجأ إلى أمور منها:

أولاً: فرض العقوبات على أيّ بلد لا يمشي في سياسته ويرفض الخضوع له. فالعقوبات التي تفرضها أميركا والغرب عموماً على روسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وغيرها، تهدف إلى خلق الأزمات لشعوب هذه البلدان المتمرّدة على سياسات الهيمنة على أمل أن تخضع لكي تأتي الشركات الغربية بكلّ ما لديها من شهية رأسمالية لنهب ثروات هذه البلدان مقابل بعض المساعدات التي ستستفيد منها طبقة فاسدة جديدة تحكم شعوبها فتسرقها بالتضامن والتكافل مع دول الغرب الإمبريالي.

ثانياً: إرهاق كاهل الشعوب بالديون ومراكمتها حتى تفتقر نتيجة فساد الحكام الذين يشكلون ذيلاً للاستعمار. ولأنّ الحكام الفاسدين يخشون على أموالهم في مصارف بلدانهم، يحوّلونها إلى المصارف الغربية، مما يساهم في تنشيط الحركة الاقتصادية في هذ البلدان، فتتقدّم هي وتتخلف البلدان التي نخرها الفساد.

وفي كلتا الحالتين تكون النسخة الجديدة من الاستعمار قد حققت أهدافها بنهب ثروات البلدان التي فرض عليها التخلف، وجعلتها تحت سيطرتها إلى أمد طويل.

وهكذا، لكي يصل المستعمر في نسخته الجديدة، عليه أن يغيّر من أسلوبه في محاولة السيطرة على الشعوب.

فهو باعتماده على حكام فاسدين، وبفرضه العقوبات، عليه أيضاً أن يطلق حملة التجييش الثقافي معتمداً على التكنولوجيا وانبهار الشعوب بها وحاجتها اليها، فيجنّد الميديا والوسائل الإعلامية التي ينشئها في هذه البلدان، ويختار لها صحافيين وأقلاماً مأجورة، ولا يبخل في إنشاء شبكة من الجمعيات ذات الطابع: «الخيري والخدماتي» لجذب الناس إليها وتقبّل توجهاتها وتوجيهاتها فتسقط في مصائدها وتصبح وجدانياً أقرب إلى ما يزعمه الغرب من حسن النوايا تجاه الشعوب التي يُراد إخضاعها وسلب خيراتها لاحقاً.

ثالثاً: تعمد أجهزته ومخابراته إلى تشويه سمعة السياسيين الشرفاء الذين يقاومون الفساد، والى شيطنة حركات التحرير الوطنية وقادتها وتصويرها على أنها هي وراء كلّ المصاعب والمشاكل الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، ويصدق السذج من الناس هذه الافتراءات خاصة عندما ينبري بعض (المثقفين) للتهليل والترويج للمشاريع الاستعمارية فيظهرها بمظهر حضاري تقدمي إنقاذي، فيتقبّلون كلّ ما يُملى عليهم وصولاً إلى استبدال الصديق والمصلح بالعدو والفاسد. وهذا ما يحصل اليوم في عمليات التنكر لمن لم تتلوّث أيديهم بالفساد، ويجري التشجيع على

التنكر للقضايا القومية والارتماء في أحضان عدو الأمة والمجتمع.

رابعاً: يذهب المستعمر بعد إنهاك الشعوب اقتصادياً إلى بث الفرقة في المجتمع وتقديم المنظمات الإرهابية بصورة المخلص من ظلم الفاسدين، فتندلع الحروب الأهلية ولا يعود المجتمع متماسكاً لأنّ الأهداف الهدامة لهذه المنظمات جرى تغليفها وتقديمها على أنها برامج إصلاحية فتنطلي الخدعة على بعض الناس ليتفاجأوا في ما بعد بأنهم استبدلوا الحكام الفاسدين بمجموعة من الأشرار الجدد من الفاسدين والقتلة الذين يقبضون على خناقهم ويمنعونهم من الحرية والتقدم في مختلف المجالات.

وهكذا يصبح الغرب الذي ينشئ هذه التنظيمات قادراً على التغلغل في المجتمع كالفيروس المميت، ويظهر بصورة المنقذ الوحيد للشعوب، فينشئ التحالفات العسكرية والأمنية بادّعاء محاربة الإرهاب، وصولاً إلى السيطرة على كلّ مفاصل الدولة والمجتمع وإخضاعهما لمشيئته، ويتقبّل الناس منه كلّ شيء لأنهم يريدون الخلاص بأيّ وسيلة، فيتقدّم هذا الغرب متباهياً بقدراته المالية والتكنولوجية ثم يبدأ بفرض شروطه الاقتصادية والسياسية على هذه المجتمعات التي تمّ إفقارها وإفساد حكامها عمداً وصولاً لتحقيق غاياته غير النبيلة.

لكن المفارقة هنا هي أنّ الديموقراطية التي يتغنّى بها الغرب تقف ممارستها عند حدود دوله، بدليل أنه لا يتحالف سياسياً واقتصادياً إلا مع أنظمة الحكم الديكتاتورية والفاسدة في الدول التي يُراد الهيمنة على شعوبها ومصادرة ثرواتها الوطنية. أما التنظيرات الفلسفية التي نجدها هامة وعميقة في بلاده والتي تهدف الى البحث عن طرق الوصول الى المجتمعات الفضلى وتحقيق مفاهيم العدالة والسعادة لشعوبه تصبح غير ذات قيمة عند حكام الغرب في ممارستهم السياسات الخارجية،

لذلك علينا التعاطي مع الغرب أو أيّ قوة اقتصادية تريد (مساعدتنا) بحذر شديد، فإذا كانت هذه الدول صادقة، عليها أن تصادر الأموال المنهوبة من قبل الحكام الفاسدين (وقوانينها الخاصة بتبييض الأموال تسمح بذلك) لصالح خزينة الدولة، ثم يبدأ التعاون معها على قاعدة الصداقة والمصالح المتبادلة والسيادة الوطنية.

اما التوجه شرقاً فهو خيار لا ينبغي إسقاطه لأننا، وأن كانت ميولنا السياسية والاقتصادية والثقافية غربية الطابع بسبب قربنا من أوروبا والعلاقة التاريخية معها، فعلينا ألا ننسى بأنّ العالم اليوم أصبح مترابطاً من خلال التقدم التكنولوجي وسياسات الانفتاح والتواصل وتبادل الخبرات والسعي إلى البحث عن المشتركات في المجتمعات الانسانية المعاصرة.

ختاماً نقول: علينا مقاومة أنظمة الحكم الاستبدادية او ذات الطابع الطائفي أو القبلي التي تغيب الديموقراطية الحقيقية وتشوّهها، والعمل على إنشاء دولة مدنية يتساوى فيه المواطنون من دون امتيازات طائفية او مذهبية، دولة تحقق طموحات الشعب في حياة انسانية كريمة، ويتمتع بحرية الرأي في الإعلام الذي لا يروّج للفتن، ولا يخضع للترهيب السلطوي، ولا للإغراءات المادية، ولا يتصدّره إعلاميون مرتهنون.

وعلينا الا ننسى بأنّ الفقراء هم من يصنعون ثورتهم ولا يصنعها لهم الأغنياء أو (مثقفون) مزعومون رهنوا أنفسهم للإمبريالية العالمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى