مرويات قومية

هكذا!

} عبد المجيد زراقط

في يوم العطلة الأسبوعيَّة، عدتُ الى قريتي من بيروت.

منذ سنوات، وأنا أتابع دراستي في كلية التربية، في الجامعة اللبنانية، في بيروت، وها أنا في السنة النِّهائيَّة، وعلى وشك التخرُّج، والتَّعيين في ثانوية أقرب مدينة لقريتي.

الشمس، في هذا اليوم الجميل، تطلُّ من بين الغيوم الرماديَّة والبيضاء، وتختفي، وأنا أجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ قرب مساكب التَّبغ الخضراء المتمايلة مع الهواء الناعم، في انتظار أن تمتدَّ اليها يدٌ حانية، فتقلعها، و»تشتلها»، في تربة الحقل التي أُعدَّت لاحتضانها.

كنت أقرأ، في كتاب التاريخ، عن إعلان «دولة لبنان الكبير». وفوجئت بجدِّي يقف خلفي، وينحني، ويطلُّ على الكتاب المفتوح أمامي، ثم يرفع رأسه، ويقول: هل يكتبون، في هذا الكتاب، أنَّ جيش الاحتلال الفرنسي اجتاح بلادنا، فقتل وأحرق، ودمَّر، وصادر، وأعدم «أدهم»، وفرض الضرائب عليها، وضمَّها فقيرة ضعيفة محرومة؟ وهل يكتبون أنَّها ما زالت كذلك؟ وهل يكتبون أنَّ الفرنسي أقام دولةً على أسس طائفية، يمثِّل زعيم الطائفة فيها طائفته، ويكون ولاء أبنائها له؟

جدِّي في الخامسة والسبعين من عمره. ما زال يمشي فجر كلِّ يوم، بعد أدائه صلاة الصبح، منتصب القامة، ويقرأ القراَن والأدعية، ويحدِّث، ويحكي حكايات الأيام الماضية.

أطبقت الكتاب. وقفت. احتضنت جدِّي، وقلت: ستحكي لي تفاصيل هذه الأمور، وسأكتبها أنا

ومشيتُ صوب بوَّابة دارنا الكبيرة.

سأل: الى أين؟

أجبت: اشتقت الى التمشِّي على الطريق العام، والى جلسة مع الرِّجال في السَّاحة.

قال: عندما تعود يكون لنا حديث اَخر.

خطر لي أنَّه يقصد أمراً أكون قد عرفته، بعد أن رأيت ما رأيته في مشواري عصر ذلك اليوم.

خرجت. كانت الشمس تواصل انحدارها واصفرارها، وسرعان ما وصلت الى السَّاحة.

السَّاحة باحة صغيرة لا شكل لها من الأشكال المعروفة، تبدأ دائريَّة، وتستطيل، تتَّسع وتضيق، كانت معبَّدة ذات يوم، والاَن تملأها الحفر الواسعة الملأى بخليطٍ من التُّراب والحجارة والقشِّتحيط بها دكاكين، تمتدُّ أمامها مصاطب يجلس عليها رجالٌ كبارٌ في السِّنِّ يحكون ويسعلون، وفي وسطها حلقات صغيرة وكبيرة يعقدها رجال عادوا من حقولهم، وراحوا يحكون عن شؤونهم.

لم أطل البقاء في الساحة، سلَّمت على الرجال الذين رحَّبوا بي كعادتهم، وأصغيت الى أحاديث ليس فيها جديد، وتمشَّيت على الطريق العام المنطلق منها. رأيت أمامي، وغير بعيد منِّي، مجموعة من الرجال يمشون خطواتٍ، ويقفون، ويشيرون بأيديهم، ويتحدَّثون بأصواتٍ عالية. أسرعت. اقتربت منهم. وسمعت:

أنا سأخلطهم بوحلوأشار الى البركةهذه البركة، ان أتوا ونفَّذوا ما يهدِّدون به

عرفته من صوته. هو أحمد الفارس، كان يرفع العَمْدة بيدٍ واحدة، وبسهولة، ويحيي الدَّبكة، في الأعراس، بغنائه وقيادته لهاو»يحورب» للبيكماذا جرى له؟ أعرف أنَّه صار أباً لستَّة أطفال، وأنَّه يعمل في الزراعة ومهنٍ عدَّة، ليعيل أطفاله ويعلِّمهم

تطلَّعت الى البركة. ليس فيها سوى الوحل. الماء الذي تجمَّع فيها في الشتاء استخدمه أبناء القرية. هي ناشفة الاَن، ونشافها، في قريتنا، حدثٌ عظيم، تقام له حفلة وداعٍ تتمثَّل في «التَّزارك»، يشترك فيها معظم أبناء القرية، ويرتدون لهذه المناسبة ثياباً خاصة يلطِّخها ويلوِّنها الوحل والماء العكر. كلٌّ يريد الفوز بسطل أو سطلين أو أكثر من الماء المخلوط بالوحل. أقيمت حفلة الوداع هذا العام باكراً. عجَّلت، في ذلك، الحاجة الى الماء في موسم زراعة التبغ.

قطع تداعياتي صوت أحمد الذي ارتفع من جديد:

ألا يكفيهم أنَّنا نعمل طوال النَّهار في أرضنا، ولا نحصل على ما يكفينا!؟ ألا يكفيهم أنَّنا نموت من التَّعب، في اليوم الواحد ميتات!؟ لا لن يقطعوا رزقنا، وهي ميتة واحدة، وزندي هذا لم يضعف بعد، نحن أقوياء، ما زلنا أقوياء

ورفع زنداً مفتولاً، قبضته مكوَّرة كأنَّها مطرقة.

لم يفارقني السؤال: ما الذي غيَّر ابن الفارس؟! كان يدقُّ الطبل للبيك، ويحمل السنجق، ويمشي في مقدمة الموكب الذاهب للحفلة، وهو يحورب…!

وقطع تدفُّق خواطري مرور مجموعة من الرجال بقربي، كانوا مسرعين، وأحدهم يقول: يا جماعة، الموسم مهدَّد بالضياعوكلُّنا يعرف نتائج ضياع موسم الدُّخان

ابتعدوا، فوسَّعت خطاي لألحق بهم، وأنا أقول لنفسي: موسم التبغ مهدَّد بالضَّياع ! لمَ!؟

أنا أعرف أنَّ هذه الأيام هي أيَّام زراعة التبغ، وقد رأيت مساكبه في دارنا تنتظرنحن معنيُّون مثلنا مثل هؤلاء المزارعينوأسرعت. كثيرون مثلي كانوا يسرعون، انضممت اليهم. وصلنا جميعاً الى الباحة الممتدَّة أمام مبنى مشروع المياه.

الجميع هنا يتحلَّقون حلقات حلقات، ويحكون بأصوات عالية. وقفت أتأمَّل المشهد، وأصغي الى كلمات المجموعة القريبة منِّي، المجموعة التي يتوسَّطها أحمد الفارس:

يا جماعة، كثرة الكلام لا تفيد. المهمُّ العمل.

ما الذي نستطيع عمله؟

عندما يأتون نمنعهم من تنفيذ ما ينوون فعله.

هل نقدر؟

نقدرسنريهم غداً من نكون.

تدفَّق رجال غاضبون، وأحاطوا بالمجموعة التي واصل رجالها الكلام، وقال أوَّل الواصلين بصوت عالٍ:

رواق، يا ناس

و أضاف بصوت أعلى: رواقرواق

وعندما خفتت الأصوات، قال: ما تقولونه ليس من عاداتنامن عاداتنا أن نلجأ لزعيمنانرفع له شكوانا وهو يتصرَّف

قال أحمد الفارس: ومن عادات زعيمكم أن لا يفعل شيئاً

وقال شابٌّ يقف قربه: يقول لنا، كالعادة، اطمئنُّوا، أنا أحلُّها، وتقع الفاس في الراس.

وصرخت أصوات: أحمد الفارس شو غيَّرك!؟ هَو الولاد الحزبيين لعبوا بعقلاتك، يا حيف عا الرجال تغيِّر مباديها

فقال ابن الفارس: اللِّي غيَّرني لقمة ولادي، اللِّي بدُّو ياخذها من تمُّون بدِّي اقصف رقبتو

وأشار للشاب الواقف الى جانبه، وقال: هَو مش ولادهَو شباب عرَّفونا حقوقنا وكيف ناخذها

قفزت. وقفت قرب أحمد الفارس، وقلت: لا زعيم ولا من يحزنونلا يفيدنا الا اتِّحادنا

وتعالت ضحكات وأقوال: بعد ناقص الأولاد تعلِّمنا شو بدنا نعمل

وقال ابن الفارس: غداً عندما يأتون نطردهم، وليراجعوا هم المسؤولين، والزُّعما

واختلطت الأصوات:

هذا جنون

وهل كثير إن جُنِنَّاليتني كنت مجنوناً لأقتلهم كلَّهم، ولا أحاسب

أنا مستأجر الرُّخصة بزراعة مساحة من أرضي من سيدكم الزعيم

 وأنا مستأجرها من زلمته

نحن قرَّرنا أن نراجع الزعيم غداً

ونحن قرَّرنا أن نطردهم غداً

انتو شويَّة مشاغبينالضيعة كلُّها معنا

وانتو أزلام الزعيموراحت أيَّامكم

علا الصراخ، وصار الكلام شتائم، وهجم جماعة بالعصيِّ، ورشق اَخرون الحجارةوأسرع أحمد الفارس وعدد من الشباب الذين كانوا معه، الى تهدئة الحال، وانسحبوا من المكان.

لحقتُ بهم. كان أحد الشباب يقول: نجحوا هذه المرَّة في تخريب التحرُّككان علينا أن نكون أكثر حنكة

اقتربتُ. وصرت في وسط المجموعة، وسألت: أنا لم أعرف الموضوعالتحرُّك من أجل ماذا؟

اقترب أحمد الفارس منِّي، وقال: أعجبني تدخُّلكالموضوع، يا أستاذ، أنَّ البركة نشفت، ولم يبق من مصدر للماء سوى ماء الشركة، وهذه تأتي في الشهر أيَّاماً، وفي اليوم الذي تأتي فيه، تأتي ساعات، ففتحنا العيارات، وغداً سيأتي موظفو الشركة لقطع الماء وكتابة محاضر ضبطوغداً سيأتي أيضاً موظَّفو شركة التبغ ليحدِّدوا المساحات التي ينبغي أن نلتزم بزراعتها، وإتلاف ما يزرع زيادة عن ذلك، ونحن ماذا نفعل في هاتين المشكلتين، لا نستطيع العيش من دون ماء، ولا تكفينا المساحات المرخَّصة، والتي يستأجرها معظمنا من الزعيم وأزلامه، وقد رأيت ما فعله هؤلاء الأزلام!؟

قلت: هكذا…!

قال : هكذا هم

عدتُ الى البيت، وحكيت لجدي ما رأيته، فقال، وهو يهزُّ رأسه: هكذا هم

وصوّب نظراته نحوي، وأضاف: وأنتم كيف ستكونون، ومَن سيكون زعيمكم في هذا الوطن الجميل!؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى