أولى

من يوميات لبناني…

} د. رائدة علي أحمد

هي الأيام تمرّ عليه بصمتٍ ورتابة، تُلقي على جسده رداء الصبح، غير أنّ الصبح لا يتنفّس، فيثور ثورته المعتادة، يخلع رداء الأمس بذلّ وانكسار، أمس النصر والتحرير، أمس الكرامة والشعب العنيد، ويلعن الزمن، يرشف فنجان قهوته المكسور بيد راجفة، يُفرغ ما في علبة التبغ في جوفه الخاوي، ويتلو تعويذة الصباح، أمام أبنائه الحيارى بصوت مخنوق، وغصّة ممزوجة بدخان لفافته الأبيض المغبّر الهارب صعُداً نحو سماء الرحمة، سماء رب رحيم شفوق، حائراً، تائهاً، مشرّدة أفكاره، وماذا بعد؟ ينظر إلى عقارب الساعة، فتستحيل غولاً يقتنص أيامه الآتية، وهو جالس على مقعده الهزّاز، فتتساقط أوراق العمر منه، وتفكيره محصور في مواقيت يومه الروتيني: الساعة الثامنة وقفة في طابور البنزين، قبل وصوله إلى وظيفته، تلك الوظيفة التي امتصّت أيامه براتب زهيد، يتقاضاه بعينين دامعتين، وحسرة مجبولة بحزن شديد على الليرة الشهيدة التي سقطت ضحية الفساد والجشع والسرقة والاستغلال.

يفكر، لعله يُنهي هذه المهمة بفوز عظيم، وإن استغرق انتظار دوره ساعتين، أو أكثر، لا همّ، لديه متسع من الوقت لينتقل إلى سوق آخر. فالساعة التاسعة سينعم بغالون زيت مدعوم بناءً على الوعد المعهود. ينتقل إلى موعد آخر، ففي الحادية عشرة تماماً سيحصل على خمسة كيلو من الأرز مصري، الحمد الله، هو الآخر مدعوم، لا ضير، سينتظر دوره، ويعود بنصر ميمون. فلتتبخّر الوظيفة ويتبخّر معها رئيسه في العمل، ولعلها تطير، ولمَ لا، فالحاجة ترمي بثقلها على كاهله، معها وبدونها. في الثانية سيمنّ آخر على الناس، ويُخرج ما بمخازنه من سكّر مدعوم للفقراء، وهو يعلم أنّ المؤن المدعومة يحتكرها التجار وأصحاب المال والأغنياء.

يفكّر… الكرامة أم البطون الخاوية وهي تنبح منذ الصباح بصوتها المفجوع؟ يتلّقى صفعة قوية من ضميره الملعون، يتمتم لعلّه يكفر، لكنه سرعان ما يعود إلى مواصلة التفكير، يمسح الصفعة بسبابته اليُمنى، يرشف الجرعة المخدّرة من فنجانه، ويترجّل عن ذلك الكرسي المغترّ بنفسه، قد لا يصل في الوقت المُعلن إلى اللحمة المدعومة، كان قد وعد أولاده السبعة بوجبة دسمة؛ لحمة وأرز. يصرخ بصمته الأعرج، فتجحظ عيناه، ويطبع وريده زرقة مائلة إلى البنفسجي على عنقه، يخاف، يظنّ أنه يختنق، يفكّر، هذا وهمُ الحنق، يواصل التفكير بقيمة وجوده على هذا الكوكب، يلعن، يشتم، يكفر، ويعود إلى مقعده الهزّاز مهزوماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى