أولى

التحقيق الجنائيّ ليس ترفاً كي نؤجله

 بشارة مرهج*

التدقيق الجنائي ليس ترفاً كي نؤجله أو يكون لنا رأي فيه كل يوم. فالموضوع يُفترض أن يكون قيد التنفيذ لولا مماطلة حاكم مصرف لبنان في تسليم الوثائق والمستندات إلى الشركة الدولية المولجة بتنفيذ الأمر.

ومن يراجع الأمور قليلاً يكتشف دونما عناء أنّ الموضوع قد حسم منذ زمن عندما قرّرت الحكومة السابقة اعتماده. والموضوع أيضاً قد حسم عندما التأم مجلس النواب خصيصاً لإقرار قانون تعليق العمل بالسرية المصرفية لمدة سنة للإفساح في المجال أمام تنفيذ قرار التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي وسواه من المؤسسات من دون أي معوقات أو عراقيل.

وعندما ربط البعض التدقيق في حسابات البنك المركزي بالتحقيق في حسابات المؤسسات أفتت هيئة القضايا والتشريع في وزارة العدل بأنّ التحقيق يبدأ بالبنك المركزي ثم بسواه.

المهمّ هنا أنّ ذلك الاستنفار لدى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لم يكن هدفه تأجيل التحقيق، وانما الإسراع فيه لمخاطبة الأزمة المالية النقدية الأكبر في تاريخ لبنان نظراً للحجم الأسطوري للأموال المفقودة، ونظراً لانهيار النظام المصرفي الذي اعتبره كثيرون القطاع الرائد في الاقتصاد اللبناني.

فالحاجة كانت ماسة، ولا تزال، لدى الدولة والهيئات والأفراد لمعرفة حجم ومصير هذه الأموال العامة والخاصة كي يُبنى على الشيء مقتضاه في مختلف الميادين.

والحاجة كانت ماسة، ولا تزال، لتعيين المسؤوليات ومعرفة كيفية توزيع الأعباء على القطاعات المختلفة.

والحاجة كانت ماسة، ولا تزال، لمعرفة الأبرياء الذين تصرّفوا بمسؤولية وصدق ونزاهة، ولمعرفة الجناة الذين أساؤوا الأمانة وخانوا المسؤولية وتوغلوا في سرقة أموال الدولة والناس أو هدرها تحت عناوين مختلفة تعصى على فهم كثيرين لغموضها والتباسها. وأكبر مثل على ذلك الهندسات المالية التي رفضتها الدائرة القانونية في البنك المركزي وأصرّت عليها الحاكمية لتستفيد منها بنوك ارتبط تعثرها بالفساد واستثمارات ضخمة فاشلة في الخارج وتسليفات غير مدروسة في الداخل، فضلاً عن مضاربات لا يقرّها قانون النقد والتسليف من دون أن ننسى انسياق عدد كبير من مدراء وأصحاب مصارف ومساهمين كبار في حياة البذخ والترف على حساب المال العام والودائع.

وتحت ضغط المواطنين الذين راعهم خسارة أموالهم وانهيار الاقتصاد اضطرت المؤسسات الدستورية لاعتماد التدقيق الجنائي على أن تقوم به مؤسسة أجنبية معترف بها دولياً لقطع دابر التأويل والتشكيك السائدين في المسرح السياسي – الاقتصادي من جهة، ولمعرفة الجناة من جهة أخرى، فيسهل إبعادهم عن سدّة المسؤولية في المؤسسات العامة أو تلك قيد التشكيل أو الإنشاء في وقت حاسم تستعدّ فيه هيئات وشخصيات لبنانية وأجنبية لضخ مليارات الدولارات لإعادة البناء واستنهاض الاقتصاد الذي فرط به حراسه والمؤتمنون عليه.

فهل يجوز ونحن على أهبّة انطلاقة جديدة أن نرسل هذه الرسالة السلبية ونقول لكلّ هؤلاء بأنّ لبنان يرفض التحقيق الجنائي، ويرفض تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويصرّ في عملية البناء على اعتماد الأسس نفسها التي ثبت هزالها، والبناء بالحجارة نفسها التي تأكدت هشاشتها؟! أليس التدقيق الجنائي هنا إشارة إلى صدقيّة مطلوبة للسير بطريق الإصلاح باعتباره الحجر الأول في عملية النهوض؟!

أليس التدقيق الجنائي هنا إشارة لإنهاء العمل بالأساليب والصيغ القديمة التي أفضت إلى الانهيار، ومؤشراً لتبني سلطة القانون ومبادئ المساءلة والشفافية وكلّ المبادئ التي تؤكد ثقتنا بأنفسنا كلبنانيين وتجدّد ثقة العالم بنا؟

يقول غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي: «قدرنا ان نناضل ونكافح لاستعادة لبنان من مصادريه وخاطفيه». هذا الكلام الحاسم ألهب حماس الشباب والمواطنين الذين رأوا فيه دعوة صريحة لمحاربة الفساد وإقالة كلّ من أساء الأمانة وصادر أموال الناس وأصرّ على إذلالهم والتعرّض لكراماتهم. لكن الصدمة أصابتنا عندما سمعنا تصريحاً من غبطته يقول: «إن لا تحقيق جنائياً قبل تأليف الحكومة».

وهنا نسألكم يا صاحب الغبطة، بكلّ احترام، ما هي المبرّرات لتأجيل التحقيق الجنائي وقد جرى إقراره سابقاً. ثم إذا تأكد هذا التأجيل فماذا يمنع، أسوة بذلك، تأجيل الكثير من الأمور التي تهمّ الدولة والناس والعدالة؟

نحن نفهم ونؤيد إصراركم على تشكيل الحكومة اليوم قبل الغد، ولكننا لا نرى مبرّراً لتأجيل التحقيق الجنائي وربط الشروع به الى ما بعد تشكيل الحكومة. فالحكومة شأن دستوري أما التحقيق الجنائي فأمر طارئ.

وإذا استمرّ البحث في تشكيل الحكومة فلا ضرر على الإطلاق من فكّ أسر التحقيق الجنائي خاصة أنه مطلوب لذاته كما لتذكير المخالفين بوجود العدالة، وهو مقصود لرفع الإذلال عن الناس، وهو مطلوب لإعادة الحق لأصحابه، وهو مرغوب لترجيح كفة الوضوح الذي اشتقنا إليه على كفة الغموض الذي دوّخنا ودوّخ معنا العالم بأسره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى