أخيرةثقافة وفنون

في مفهوم السَّرد وأدبيَّته

} عبد المجيد زراقط

ما هو السرد؟ ما الخصائص التي تجعل منه أدباً؟ في ما يأتي، نحاول الإجابة عن هذين السُّؤالين:

في مفهوم السَّرد

السَّرد، في اللغة، هو تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متَّسقاً بعضه في أثر بعض، والسَّرد هو ضمُّ الشيء بعضه إلى بعض، نحو النَّظم وما أشبهه، ومنه قولهم: سرد الدِّرع، أي ضمَّ حديد بعضها إلى بعض، وفي التنزيل: )وقدِّر في السرد. وهذا يعني أنّ مفهوم السرد، لغوياً، يعني ضمَّ الشيء إلى الشيء في سياقٍ متّسق، ما يعني أنَّه «نقل الحادثة من صورتها الواقعيّة إلى صورتها اللغويّة».

السرد، بهذا المعنى، هو «اللغة»، التي يُصنع منها «الكلام»، إن استخدمنا مفهوم «سوسير” لهذه الثنائيَّة. والسرد بمعنى «الكلام»، هو تشكيل الأحداث تشكيلاً جمالياً من منظور يختار منها ما يقيم به بنية سردية متخيَّلة تنطق برؤية المنظور الذي تمَّ تشكيلها منه.

إنّ السرد، بمعنييه، اللغوي: ضمّ الأحداث وعرضها، والمصطلحي تشكيلها بنيّة لغوية متخيَّلة جميلة، هو طريقة في ضمِّ الأحداث وعرضها لغوياً، وفي إقامة البنية اللغوية السردية، وليس نوعاً أدبياً، ذلك أنّ المعيار في تحديد النوع الأدبي هو تركيبة بنيته وخصائص هذه التركيبة النوعيّة.

في أدبيَّة السَّرد

تحدّد البنية التي يتخذها السرد، إذاً، النوع اللغويّ الذي يشكّله، فإن كانت هذه البنية مطابقة لمرجعها كان السرد نثرياً تسجيلياً بهذا القدر أو ذاك، وإذا كانت غير مطابقة، أي أنّها تمثِّل المرجع كما يراه الراوي، وتنطق برؤيته، كان السرد أدبياً، ومقدار المفارقة بين البنية السردية المتخيَّلة والمرجع هو الذي يحدِّد أدبية السرد ومقدارها. فالنص الأدبي هو بنية لغوية تستخدم فيها اللغة استخداماً خاصَّاً جمالياً، يتمثل في خصائص نوعيّة جماليّة تنطق بدلالة كاشفة. والاستخدام الجماليّ الخاص للغة، هو المجاز، أو الانزياح اللغويّ الجماليّ، ما يعني أنَّ الإيقاع التاريخيّ لتكوُّن الإبداع وتحوُّلاته لا نهائيّ التحرُّك، وأنَّ المتخيَّل الإنساني الأدبي لانهائي التكوُّن.

 لكن يبقى هناك جوهر خالد لا تاريخيّ، ثابت، في الوقت نفسه. وهو جوهر، أو نواة النَّوع الأدبيّ، فتكون الأدبية نتاج تجربة مركَّبة من ثلاثة مكوِّنات هي: 1. نواة النوع. 2. مَا تؤتيه شروط المرحلة التاريخية. 3. مَا تؤتيه تجربة الأديب الحياتية الأدبية الفردية الفريدة.

يتم، في هذه التجربة المركَّبة، التفاعل بين الجوهري الثابت والتاريخي المتحوِّل، ما يعني أنّ نصوص النوع الأدبي الواحد في حالة تواصل من حيث المشترك، و«التأثير الكليّ»، وفي حالة انقطاع من حيث الفرادة والتفرُّد.

إن الجوهري الثابت الذي يميِّز الأدب عموماً هو المجاز، ليس بمعناه البلاغي المتمثل بالمجازين: العقلي والمرسل، وإنّما بمعنى الانتقال بالألفاظ من محلٍّ إلى محلّ، أو هو الجواز/ العدول باللغة من موضع إلى موضع اَخر.

يُستخدم، اليوم، مصطلح آخر هو «الانزياح»، وهو «المجاز» بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً، ونريد به «المجاز»، أو «الانزياح» ليس على مستوى الأسلوب ومكوِّناته فحسب، وإنّما على مستوى البنية أيضاً، والأسلوب مكوِّن من مكوِّناتها، و«المجاز» هو ما يجعل النص متَّصفاً بالأدبية أو الشعرية، وهي الخصائص اللغوية النوعيّة التي تجعل من البنية اللغويّة بنية أدبية تنطق بدلالة. فالشعرية ليست موجودة في الأنواع اللغويّة التي تؤدي فيها اللغة وظائفها الأساس، وهي: التعبير، والتواصل والإبلاغ، وإنّما موجودة في الأدب الذي تتمثَّل فيه وظيفة اللغة الإبداعية. وهذا يجعلنا نقرِّر أنّ السرد الذي يؤدي وظائف اللغة الأساس، من دون أن يتصف بالأدبية (la littérarité) أو الشعرية (la poetique)، أو ما سمّيناه آنفاً، الجوهريّ الثابت، هو سرد نثري، والسرد المتصف بالشعرية، أو الأدبية، هو سرد أدبي، يؤدّي في الأساس وظيفة جماليّة شعرية.

إن كان المجاز المؤدّي وظيفة جمالية/ شعرية هو ما يميِّز البنية اللغوية الأدبية، فإنّ توافره، في هذه البنية، من حيث الكم والكيف، هو الذي يميِّز هذا النوع الأدبي من ذاك.

والوظيفة الشعرية ليست الوظيفة الوحيدة في النص الأدبي، وإنّما هي الوظيفة المهيمنة، في حين أنّها لا تؤدّي في النصوص غير الأدبية سوى دور ثانويّ.

أميل إلى الاعتقاد بأنّي لست بحاجة إلى إعادة ما قاله جاكوبسون وجان كوهين وتودوروف… في هذا الشأن، فهو معروف، ولكنّي أعتقد بأنّي بحاجة إلى ما قاله النقاد العرب في الشأن نفسه، لأنّنا بحاجة إلى أن نكشف عن رؤى أسلافنا، ونؤسّس عليها.

ولبيان أهمية هذه الرؤى أشير إلى أن حازم القرطاجني (ت. 1285م)، تحدّث قبل رومان جاكوبسون (1896ـ1982) بسبعمئة عام عن وظائف النص، إذ قال: إنّ الأقاويل الشعرية تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها من جهات، وهذه الجهات هي: ما يرجع إلى القول نفسه: الرسالة، أو ما يرجع إلى القائل: المرسل، أو ما يرجع إلى المقول فيه: السِّياق، أو ما يرجع إلى المقول له: المرسَل إليه. وجاكوبسون، كما هو معروف، رأى أنّ في النص ستة عناصر وست وظائف هي : 1. المرسل وظيفته تعبيرية انفعالية. 2. المرسل إليه وظيفته تأثيرية انتباهية. 3. الرسالة وظيفتها جمالية. 4. المرجع وظيفته مرجعية. 5. القناة وظيفتها حفاظيّة. 6.الميتالغة ـ وظيفتها تفسيريّة ميتالغوية.

عندما تكون الوظيفة الجمالية هي الوظيفة / القيمة المهيمنة la valeur dominante في النصِّ يكون النص أدباً، والوظيفة المهيمنة في النص يقصد بها العنصر البؤري للنص الأدبي. إنّها تحكم العناصر الأخرى ووظائفها وتُحكم بناء البنية، وتكسب النص نوعيته، وهي التي تحدّد النوع الأدبي.

*أستاذ جامعي وناقد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى