أولى

الانتخابات والقدس

 سعادة مصطفى أرشيد _

لا تكاد تهدأ فضيحة من فضائح تسرّب العقارات المقدسية من ملكية المقدسيّين إلى ملكية الشركات الاستيطانية (الإسرائيلية)، أو الجمعيات التلمودية المتطرفة، إلا وتثور أخرى، تتشكل لجان التحقيق وترد أسماء متورّطين في البيوع، بعض تلك الأسماء من النوع المكلّف أصلاً بحماية القدس وعقاراتها، لا التفريط بها، وهذه الشائعات التي كان من المفروض أن تقطع نتائج عمل لجان التحقيق دابرها بنشر الحقيقة، التي تنفي الشائعة أو تؤكدها، ولكن اللجان تتشكل وتُصرف لها الموازنات دون أن تجتمع، وهي إنْ اجتمعت فلا تخرج بنتائج للجمهور الذي يريد أن يعرف ما جرى، كما في قصة منزل عائلة جودة المطل على الحرم المقدسي، حيث باع أصحاب المنزل عقارهم إلى شخص فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة، ولكن جهات رسمية فلسطينية، اعترضت على صفقة البيع، بحجة أنّ المشتري يعمل لأجندات دولة عربية، وأنّ تلك الدولة العربية تريد تسريب العقارات المقدسية للشركات (الإسرائيلية)، تمّ إبطال صفقة البيع، واقترحت تلك الجهات الرسمية على أصحاب العقار، مشترياً موثوقاً من قبلها، صاحب أجندات اقتصادية ملتزمة وطنياً، ولكن ذلك الموثوق قام بتسريبها بعد ساعات، لصالح جمعية تلمودية اسمها (عطيرت كوهين)، محققاً أرباحاً خرافية، وهذا ليس بغريب على عمل لجان التحقيق، الأمر الذي يذكرنا بلجنة التحقيق التي شكلت قبل عقد ونصف العقد للتحقيق في ظروف اغتيال أبو الوطنية الفلسطينية والزعيم الفلسطيني الأشهر، الراحل ياسر عرفات، والتي لم يعرف المواطن الفلسطيني عن نتائج تحقيقاتها شيء.

تسرّب العقارات في القدس لم يعد يهمّ من يهمّه الأمر، إلا بالقدر الذي يمكن توظيفه للحصول على مزيد من الدعم من بعض الصناديق العربية والإسلامية، التي أخذت تتبرّم من عدم تحقيق الأموال التي تدفعها أية نتائج عملية، كما تذهب بعض توظيفات عمليات البيع إلى الإنحاء باللائمة على من يُراد إلصاق التهمة به، دون التفكير أو السعي لإنقاذ تلك العقارات.

سلوان بدورها التي تقع في قلب الحوض المقدس، وهي مدينة داوود، تتسرّب عقاراتها يوماً بعد يوم، وأستذكر هنا أنّ أول خمسة بيوت صودرت في سلوان كان في عهد حكومة شارون، وفي الأثناء التي كانت تعقد فيه مفاوضاته مع الفلسطينيين في واشنطن، ثم كارثة الصفقات التي كشفت عام 2014 حول بيع 36 عقاراً في سلوان، حينها توافد وزراء الحكومة الفلسطينية لدعم أهل سلوان وللشدّ على أيديهم، وتحفيزهم للصمود، وتمّ وعدهم بدعم مادي لدرء تكرار هذه الصفقات، غادر الوزراء يومها ولم يعودوا، في الأيام الماضية تمّ الكشف عن تسرّب عقارين كبيرين، واستلمهما المشترون اليهود، ورفعوا أعلامهم على الأسطح، الأمر الذي أثار عاصفة شعبية لا رسمية، ومحاكمات عشائرية، لا قضائية، أعلنت بها عوائل السماسرة براءتها من أبنائها المتورّطين، وأعقبها فتاوى دينية تجرمهم، وتحظر الصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولكن الخبر مرّ بشكل هامشي متأخر في ترتيبه في وسائل الإعلام ونشرات الأخبار الفلسطينية الرسمية، الأمر الذي يدعو إلى قراءة هذا الأسلوب الإعلامي قراءة سياسية لا إخبارية فقط.

يذكر التاريخ على الأقلّ ثمانية عشر دولة وإمبراطورية تعاقبت سيطرتها على القدس، ودفعت في سبيل حكمها أو من أجل بقائها كثيراً من الدم والجهد والمال، هزمت أم انتصرت، وقد مثلت المدينة عبر تاريخها المغرق بالقدم، محوراً من محاور الصراع، ومادة من مواد الشرعية لحروب وسلالات ملكية وحكومات، ولا تزال، ومن أمثلة ذلك أنّ صراعاً يدور اليوم بين الأتراك والحكومة «الإسرائيلية» حول ترميم بركة السلطان على الحائط الغربي لسور القدس، وأحقية ترميم قطعه حجرية نقش عليها التاريخ الذي حدّد تاريخ إنشاء البركة، والدور العثماني في إنشائها، وإزالة ما علق على ذلك الحجر من أوساخ، بسبب تقادم الزمن وطحالب الرطوبة .

لم يستشير أحد أهل القدس ولم يكن لهم رأي في أوسلو، الاتفاق الذي وضع مصير المدينة ومصيرهم خارج تلك التسوية، باعتبارها من مسائل الحلّ النهائي – الدائم، التي سيتمّ بحثها في وقت لاحق، وهو الوقت الذي لم يأت وربما لن يأتي في المنظور الزمني، وهو الوقت الذي عملت به حكومة الاحتلال على تعزيز وجودها وسيطرتها على المدينة، بشراء العقارات، وتهويد المدينة، وتغيير بنيتها الديمغرافية، بما تقدمه من خدمات متواضعة للمقدسيين، في حين عمل الفلسطيني بشكل باطني على تفكيك علاقته بالقدس باعتبارها قضية خاسرة، ولكن مع إبقائها شعاراً ونشيداً ومصدراً للتمويل من الصناديق العربية والإسلامية، ومارس الفلسطيني الرسمي سياسات ورفعت شعارات عالية النبرة، عكسية المفعول، منها ما قرّره وزير تخطيط أسبق في حكومة سابقة، بأن خفّض من حصة القدس في الموازنة الفلسطينية، مفترضاً أنّ ذلك يجبر (الإسرائيلي) على الصرف على المواطنين وعلى مشاريع البنية التحتية، الأمر الذي سيرهق حكومة الاحتلال مالياً، فقد تهرب من مسؤولياتها المالية وتترك القدس لنا، وكانت نتيجة هذه الكوميديا السوداء فكّ ارتباط المقدسيين بالسلطة الفلسطينية، وتعزيز ارتباطهم ببلدية القدس اليهودية وحكومة الاحتلال، هذا في حين أنّ حصة محافظة القدس (340000 مواطن من حمَلة هوية القدس الزرقاء و15000 من حمَلة هوية السلطة الفلسطينية الخضراء) من موازنة الحكومة الفلسطينية 30 مليون دولار، فيما محافظة أخرى يبلغ عدد سكانها أقل من 80000 مواطن ترصد لها الحكومة 80 مليون دولار.

يعرف المقدسي والفلسطيني أنّ وزارة مستقلة من وزارات الحكومة الفلسطيني تحمل اسم القدس ولها وزير يحمل لقب وزير القدس، كذلك عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومحافظ برتبة وراتب وزير، مسميات و»مخترات» لا قيمة لها ولا وزن، ولا تقدم أية فائدة إلا ما تؤمّنه من راتب وامتيازات مالية واجتماعية لشخص حاملها، وما تدّعيه من اهتمام زائف، أما أهل القدس وعقارات القدس، وسوق الزعتر وخان الزيت، والشوارع العتيقة، ومآذن وأجراس كنائس القدس، تلك التي نسمعها في الأغاني والأناشيد فلا تستفيد منها إن لم تكن عبئاً عليها، فالقدس لا بواكي لها أو عليها .

 في رام الله، يتمّ إلقاء الحمل على الآخرين بمن فيهم – أو على رأسهم الأردن بحجة الوصاية الأردنية على المدينة، الأردن بدورها تتخفف من أحمال المدينة وتكتفي بالولاية على الأماكن المقدسة الإسلامية (المسجد الأقصى وقبة الصخرة)، لا بالقدس المدينة والعهدة العمرية التي تشمل كنيسة القيامة ودرب الآلام وغيرها من الأماكن المسيحية – الإسلامية، من هذه النقطة نشأ الفراغ الذي تكرهه قواعد الفيزياء وقوانين السياسة على حدّ سواء، فقام «الإسرائيلي» بتعبئته.

حدّدت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني الثالث في 23 أيار المقبل، لكن فصائل وتنظيمات من بينها الحزب الحاكم، تقول لا انتخابات بدون القدس، فهي العاصمة الأبدية، وبوابة السماء، إليها يزحف الشهداء بالملايين (حسب هتاف شهير)، فيما المعطيات السابقة لا تدلّ على ذلك، فكيف يرفع شعار لا انتخابات من دون القدس، في الوقت الذي مارسنا فيه إهمالاً منظماً للقدس، وافترضنا بالباطن أنها قضية خاسرة، حتى وصل الأمر، بأن جعلناها لقمة سائغة في فم (الإسرائيلي)، ولنا في انتخابات 1996 ثم انتخابات 2006 بعض الدروس والعبر، فقد كان عدد من مارس حق الاقتراع من حملة الهوية الزرقاء (هوية القدس) منخفضاً بشكل ملحوظ، وتحدّدت ستة مكاتب بريد (إسرائيلية) كمراكز اقتراع، وبهذا، تقرّ هذه الصيغة على أنّ المقدسيين لا يعترف بهم إلا كجالية تعيش خارج حدود الوطن، شأنها شأن الجاليات التي تعيش بالخارج وتمارس حقها الانتخابي بالاقتراع في القنصليات والسفارات .

لا نملك إلا أن نشاطر الشاعر السوري نزار قباني اعتذاره للسيدة فيروز، فلا يوجد لأجراس القدس من يقرعها، ولا لأبواب القدس من يفتحها.

*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى