أخيرة

..والزمن الجميل!!

} زياد كاج*

  تقول أمي إن أيام الرئيس كميل نمر شمعون كانت أجمل أيام. «كان في بحبوحة ورز كتير!»، هكذا تختصر  ببساطتها «البحمدونيّة» الزمن الجميل الذي عاشته في البلد قبل الحرب، رغم عدم اهتمامها بالسياسة. تقول لي إنهم كانوا يغنّون أيام الطفولة في الضيعة أغاني كي تنتصر فرنسا في الحرب؛ وإن العيشة في الضيعة كانت أجمل وأبسط. رغم كثرة المهام والشغل في الرزقات، كانوا يأكلون من أرضهم ومجهودهم المباشر مع الطبيعة وخيراتها. وهي وأخواتها كنّ من الجيل الذي هبط من القرية الى بيروت للعمل وشهد ازدهار البلد في ساحة الشهداء وشاهدن وعشقن المطرب فريد الأطرش في أجمل أفلامه.

  لطالما تكرّرت عبارة «الزمن الجميل» على مسمعي في المقاهي. خاصة على لسان الكبار من البسطاء أو من المثقفين والعارفين بأحوال الدنيا والبلد. فهل المسألة شخصية تخصّ كل فرد وحده أم أن الزمن عام يشمل ويؤثر على المجتمع والبلد والناس ككل. في مقابلة تابعتها على تلفزيون لبنان (صرت من متابعيها لحنيني للزمن الجميل ولأنها مريحة للأعصاب) أجراها الشاعر والإعلامي عبد الغني طليس مع السادة: حكمت أبو زيد، ونقيب المحررين جوزيف القصيفي وصحافية مخضرمة من آل الحسيني، دار النقاش حول الصحافة بين الأمس واليوم. وذكر الأستاذ أبو زيد عبارة «الزمن الجميل»؛ وهي عبارة لطالما أطربتني وسمعتها من الفيلسوف علي حرب وكثر غيره.

  لماذا اذاً يُوصف زمنٌ ما بالجميل؟ ولماذا هو غالباً مرتبط بمفهوم الماضي والذاكرة؟ وهل مكتوب على الأجيال الصاعدة أن تعيش زمناً بشعاً مليئاً بالصعاب والتحديات والفخاخ؟ وهل جيل اليوم يعيش بشاعة هذا الزمن المفخّخ بالحروب والإرهاب والتطرف الديني ووباء الكورونا والخوف على المستقبل كما نعيش نحن كبار السن؟

  على المستوى العام، يرتبط مفهوم «الزمن الجميل» بالماضي وبالمراحل السياسية والاقتصادية والأمنية التي مر بها البلد. فالجيل الذي يكبرني ببضع سنوات يتحدّث عن فترة الستينيات وأوائل السبعينيات كأنها حلم ليلة صيف جميل مر. أسمعهم يرددون أخبار تلك الحقبة كمن يتحدّث عن عرس أسطوريّ: حركة مصطافين في الصيف والشتاء، مهرجانات في بعلبك وكافة المناطق. الرحابنة وفيروز يبدعون محلياً وعالمياً. الصبوحة شمس تشرق من خلف جبالنا كل يوم. وديع الصافي يحلّف الطير. جورجينا رزق على عرش جمال العالم. الفرق الفنية العالمية تغزو البلد. دور السينما تعرض أجمل الأفلام الأجنبية والعربية. الفنادق تعجّ وتضجّ، بيروت مدينة لا تنام، موسم الثلج أبيض، فرح ومرح للأغنياء والفقراء، وطبقة متوسطة تحاول مصالحة أهل فوق مع أهل تحت. وشوشو يُنسي المعترين همومهم. وأبو سليم وأبو ملحم يبقون العائلات في بيوتها. المطابع تطبع لكل العالم العربي، كتب تنشر، كتاب وشعراء يبدعون، وصحافة يحلف لها ألف حساب. فمع كل صيحة ديك، كانت السفارات تنتظر جريدة النهار ومقال الصحافي ميشال أبو جودة العزيز على قلب الزعيم العربي عبد الناصر.

  الفترة الممتدّة بين 1975 و1990 لا يمكن احتسابها من حياة اللبنانيين. خمسة عشر عاماً راحت هباء وخطفت «الزمن الجميل». وضعته في كيس مع كومة حجارة من جمر ونار ورمته في مياه عميقة في عُرض البحر.

  بعد الطائف، حدث زمن جميل بعد صمت المدفع. عاد الأمل الى اللبنانيين بمشروع إعادة إعمار البلد (الوسط التجاري) وكان الإنجاز الكبير باختفاء خطوط التماس بين بيروت الغربية والشرقية وعودة التقاء الناس ببعضهم ليتعرفوا على بعضهم بعد فراق وغربة دامت 15 سنة. عاد «الزمن الجميل» الى البلد لكنه ارتبط باسم شخص واحد هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي استفاد وأفاد غيره. رجل – مشروع أكبر من بلده. علّم أجيالاً من كل الطوائف في أفضل الجامعات في لبنان والخارج. بالمعنى اللبناني «أكل وطعمى..». المنتصرون ما بعد الحرب وضعوا البارودة جانباً وارتدوا البذلات الرسمية، والخاسرون تقبّلوا الوضع على مضض. سنة 2000 كانت عرساً وطنياً. في 14 شباط 2005 اغتيل الرجل قرب مسبح «السان جورج» وبدأت مرحلة تدمير «الزمن الجميل» حتى زواله.

  على المستوى الشخصي، يبقى أن لكل إنسان زمنه الجميل الخاص. كثر يعيدونه إلى أيام الطفولة، فالمراهقة، فالشباب، فالنجاح في العمل وتأسيس عائلات ثم ما يشبه الراحة مع التقدم في العمر. وقد يرتبط الزمن الجميل للإنسان بمرحلة ما عرف فيها السعادة وحقق نجاحاً في حقل عمله. وتبقى مرحلة المراهقة والمدرسة والجامعة هي من الأيام السعيدة لأنها تكون عادة خالية من المسؤولية والإحساس بمشاكل البلد والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد.

  الزمن الجميل بالنسبة لي كان قبل تغيير مكان سكني وقبل عارض صحيّ زلزل كياني النفسيّ. فمفهوم الزمن عندي مرتبط بالمكان والبلاء. دائماً أجد نفسي أعتمد هذا المقياس: ما قبل، وما بعد. زمني الجميل كان في رأس بيروت. في البناية التي عشنا في إحدى شققها في شارع الصنوبرة. الجيران من كل الملل والنحل: أرمن، دروز، عراقيون، شيعة من الجنوب، شهود يهوا، أقباط…. ولا أحد يسألك عن دينك أو طائفتك. حتى أنا لم أعرف أن أمي مسيحية الا عندما بكت يوم مقتل بشير الجميل! أبي لم يقل لنا إنه مسلم. وأنا كنت أقصد جامع قريطم القريب للصلاة يوم كانت الجوامع للعبادة فقط، كما كنت أزور الكنيسة في ضيعة أمي واسكر لسماع التراتيل. زمني الجميل كان مع صديقي ابن النبعة وابن بعلبك وابن الدامور وابن عين وزين وما كانت الطائفة يوماً على ألسنتنا. شارع الحمراء كان ساحراً بدور السينما والكتب المستعملة التي تباع على الأرصفة. الزمن الجميل كان في البرك السبع على الروشة، وفي صيد السمك مع أخي في مقهى الروضة، وفي حديقة الصنائع، وفي شوارع فردان وعائشة بكار والملا ونزلة الحص ومار الياس. وفي بيت جدتي الحاجة أم مصطفى التي كانت تقول: «الحي يلي ما فيه نصارى… خسارة».

  زمني الجميل كان قبل المرض – الصدمة؛ قبل الانكسار وتفتت «الأنا» وهي العمود الفقري لشخصية الإنسان. لا أنكر أنني أقارن كل ما أفعله وما أقوله بمرحلتي العمرية العشرينيّة. كان كل شي أبيض ثم فجأة صار أسود. سنوات وسنوات من الصبر والكدح كي أصل الى الرماديّ. وممَ يشكو الرمادي؟ والكل راجع وأنا غادي. لذلك كتبت يوماً: «عشت نصف حياة». فزمني الجميل كان أياماً كنت أمضي نهاري على ملاعب كرة السلة في الجامعة الأميركيّة من دون أن أضع لقمة في فمي طوال النهار. عشقت الموسيقى الغربية وأحببت القراءة. كما كانت لي الكثير من الغراميات البريئة بسبب ميولي الرومنطيقية والحساسة فوق اللزوم. في إحدى السهرات، كنا نشاهد مسلسلاً على التلفزيون فمر مشهد فيه قبلة بين الممثل والممثلة. خافت أمي عليّ وقالت: «يا عيب الشوم». الحياة علمتني أن أمي لم تقل الحقيقة. لأن أجمل ما في الوجود هو أن تتعرّف إلى أصدقاء وصديقات فتعرف نفسك أكثر. وعشقت الجمال الى أن كدت أتحول الى «محدق» محترف. كل أنواع الجمال: موج البحر، أنواع الأشجار، شكل حجارة الحيطان، شجرة الصنوبرة الضخمة في حيّنا، واجهات المحال، أشكال السيارات، طريقة مشي الناس وتحدثهم، وطبعاً «جميلات» رأس بيروت والحمرا.

  يبقى أن «الزمن الجميل» هو مفهوم نسبي بين الناس وبين الأمكنة والأزمنة. إذ يستحيل أن نقول عن الحرب العالمية الثانية إنها كانت زمناً جميلاً. عاش العالم حروباً كاسحة مدمّرة خاصة في أوروبا. يكفي أن معركة «ستالينغراد» كلفت الجانبين 2 مليون قتيل؛ وكان يسقط فيها جندي روسي كل 25 ثانية. تاريخ البشرية ملىء بالحروب والكوارث والأوبئة وشتى أنواع المصائب. لا أعرف لماذا «فوكسَت» (من كلمة فوكوس وهي كلمة انكليزية تعني ركزت) على الحرب الفييتنامية بين الشمال والجنوب والدور الأميركي وسقوط سايغون. تابعت الموضوع على «اليوتيوب» فتعرّفت إلى شخصية الزعيم هو شي مينه وجنراله جياب الذي واجه الأميركان وكيف كانت نهايته. لم يكن زمناً جميلاً لا للشعب الفييتنامي الذي حُرقت بيوته وناسه بالقنابل الحارقة، ولا للشعب الأميركي الذي صار يشاهد جنوده يعودون في النعوش الى أرض وطنهم.

  في زيارتي لشقيقتي وأمي كما كل أحد في شقتهما في رأس بيروت، سألت شقيقتي ماذا يعني لك «الزمن الجميل؟». بعد أن توجست منها بداية حديث عن الغلاء والأسعار وحال البلد. قلت أغير الموضوع.

  أجابت بصراحة: «لم يكن لي نصيب وافر من هذا الزمن، لأنني اضطررت للعمل باكراً. لكنني لا أزال أذكر مناسبتين عزيزتين على قلبي أدخلتا البهجة الى نفسي. المرة الأولى، حين أخذتنا والدة صديقتي كارمن الآشورية واشترت لنا حقيبتي كتف عليهما العلم اللبناني من سوق الطويلة. والمرة الثانية، يوم ذهبت برفقة صديقتي فاديا أبو حسون، لاعبة التنس الماهرة في سيارتها الرينو سانك البرتقاليّة وشاهدت شاطئ الرملة البيضاء من الطريق المرتفع».

*روائيّ من لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى