أولى

لبنان بين الداخل والخارج والخروج من المأزق…

 د. جمال زهران*

أتابع ما يحدث في لبنان باهتمام بالغ، فهي درّة الحريات في الوطن العربي، وتحيا على فكرة «التوازنيّة» بين الأطراف والقوى السياسية، التي تسمح بالحريات، مع التمترس خلف النظام الطائفي. وأشعر بالقلق الشديد على حاضر ومستقبل هذا البلد الغالي والعزيز على كل عربي من المحيط إلى الخليج، خاصة أنّ شعب هذا البلد، هو شعب محب للحياة وللآخرين. ويندر أن تجد الابتسامة الطبيعية والجميلة عند استقبالك في أيّ مطار عربي، باستثناء مطار بيروت، رغم صغر حجمه، وصغر لبنان، إلا أنّ مكانة الدولة ليست بصغر الحجم «مساحة وسكاناً»، أو بضخامة الحجم! ومنذ أن تذهب إلى شركة طيران «الشرق الأوسط  – Middle East، وهي الشركة الوطنية اللبنانية، تجد الابتسامة على وجوه الموظفين، والاهتمام الكبير الواضح، عند حجز التذاكر، حتى بعد أن تخرج من المطار وتصل إلى قلب بيروت العاصمة حتى تجد أفراد الشعب بل ونخبه، ومحاله إلخ…، تجد الابتسامة الصافية والطبيعية. إلا أنّ كلّ ما أخشاه، أنه مع تزايد الضغوط والأزمة الاقتصادية الحادة وهي من صنع قوى الفساد بلا شك، أن تتراجع أو تختفي الابتسامة عن الوجوه، التي تميّز شعب هذا البلد!

وقد حاولت كثيراً الابتعاد عن الكتابة عن لبنان، تفادياً للقول بأن ما يجري في لبنان هو شأن داخليّ، رغم أنني أعتقد في صواب أن ما يجري في لبنان هو شأن عربي حقيقي، لأن لبنان تعني كل العروبيين الحقيقيين.

وبمتابعة الشأن اللبناني، يلاحظ أن الحكومة القائمة برئاسة د. حسن دياب، هي حكومة تصريف أعمال منذ ثمانية أشهر تقريباً، بعد أن مورست عليها الضغوط حتى اضطرت لتقديم استقالتها، وإعادة ترشيح سعد الحريري، ليشكل الحكومة مرة رابعة! وقد كتبت آخر مقال عن لبنان آنذاك، طرحت فيه فكرة استمرارية حكومة دياب مع تنقيحها بعدد من الوزراء الأكفاء الاختصاصيين ولو بغطاء سياسي. أيّ أن يحدث التوافق على إعادة تكليف د. دياب بتشكيل الحكومة، وأن يتعهّد الجميع برفع الضغوط عنه، ليتمكن من معالجة جميع المشاكل ومواجهة جميع الأزمات. بعبارة أخرى فإنّ المطروح هو تحرير حكومة دياب من الحصارات والضغوط والاتهامات وتفعيل القانون على الجميع. فالذي يحدث أن هناك مَن يُصرّ على تجاوز القانون، والتمترس خلف الطائفية، الأمر الذي يعوق دعم الدولة المدنيّة في لبنان، ويؤكد إعادة إنتاج هذه الطائفية البغيضة المعوقة للتطور السياسي والاقتصادي للدولة اللبنانية وشعبها الذي ثار في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، وأعلنها مدوّية: «كلن.. يعني.. كلن!»

ورغم أنّ الشعب تحرك في أكتوبر 2019، وطالب بإسقاط الحكومة التي كان يرأسها الحريري، ونجح في ذلك، واستقر في الميادين في أنحاء لبنان من الشمال إلى الجنوب، إلا أنه حتى الآن نرى إصراراً غريباً على إجهاض الطفرة الثورية الشعبية، وتحويلها إلى ذكرى تاريخية، تذكر في كتب التاريخ وروايات لأحداث وقعت!!

فالشعب اللبناني يُصرّ على التغيير، ويُصرّ على تجاوز الواقع، ويطالب الجميع بإعادة ترتيب أوراقهم تحقيقاً لطموحات الشعب اللبناني في حياة أفضل، في ظل بيئة سياسية واقتصادية أكثر تطوراً وتقدماً.

ففيما يتعلق بتشكيل الحكومة، فهي تخضع لتوازنات داخلية، وكل طرف يمتلك أوراقاً للضغط وفرض النفوذ، يستطيع من خلالها احتجاز حقه في تشكيلة الحكومة. وتتنازع تشكيل الحكومة فكرتان إن لم نقل ثلاث: الأولى: هي تشكيل من الاختصاصيين التكنوقراط بشكل كامل، والثانية: هي تشكيل من الأطراف والقوى السياسيّة بغض النظر عن الكفاءة، والثالثة: هي تشكيل من اختصاصيين بغطاء سياسي، وهو خيار الجمع بين التكنوقراط والسياسيين، وفي صورة أفضل.

إلا أن المشكلة تظل قائمة في محاولات بعض الأطراف الفاعلة الاستقواء بالخارج سواء إقليمياً أو دولياً. وهو الأمر الذي يسهم في تعقيد مسألة التشكيل، وتأجيلها، حتى وصلت إلى أشهر ثمانية، من دون أن يظهر حتى الآن ضوء في نهاية النفق!!

فالحريري المكلف بالتشكيل يذهب إلى السعودية والإمارات ومصر، وقطر، على المستوى العربي والإقليمي، ثم يذهب إلى باريس وأخيراً روسيا، كما أنه يلتقي بسفراء وممثلين أجانب يأتون إلى لبنان، من دون أن يصل إلى حل أو غطاء سياسي يمكنه من تمرير التشكيلة التي يطرحها.

وقد لاحظنا قيام وزير الخارجية المصريّة (سامح شكري)، بزيارة لبنان والتقى رئيس الدولة وبعض الأطراف من دون بقية القوى السياسية الفاعلة، ليخرج بانطباع ظهر في تصريح رسمي، أنه ليس هناك حرص على تشكيل الحكومة قريباً!! وكذلك قيام المتحدّث الرسمي للأمين العام للجامعة العربية، الذي التقى بأطراف من دون أخرى، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية (ميشال عون)، وخرج بتصريح مماثل لوزير الخارجية المصري، وأضاف: «من يريد مساعدة الجامعة فإننا جاهزون»!! وهي زيارات بروتوكولية ولا تخرج عن دور العلاقات العامة… لا أكثر!

وفي محاولة من رئيس الوزراء الحالي (د. دياب) لحل مشاكل اللبنانيين في الوقود وغيره، فقد قرر زيارة العراق، وتحدد الموعد، إلا أنه تم الإلغاء أو التأجيل (لا فرق)، وتردد أن ذلك بفعل تأثير المملكة السعودية والإمارات، لتظلّ الأزمات مستمرة، وهي محاولة للتأثير السلبي على إمكانية تشكيل الحكومة، وإعادة عمل الحكومة القائمة!

على الجانب الآخر، فإن الرئيس ميشال عون، يُصرّ على الربط بين تطبيق المحاسبة أو التدقيق القضائي مع التشكيل الحكومي، واستمرار فكرة الـ (24) وزيراً. ويحظى هذا الطرح بأغلبية كبيرة، في مواجهة إصرار الحريري على الانفراد بالتشكيل، ورفض كلّ ما يطرحه الطرف الآخر!!

في ظل هذه المعادلات الصعبة، والتداخلات بين ما هو داخلي، وما هو خارجي، فما زلت أرى أن العوامل الداخلية هي الأصل، وتحتاج إلى مهارة الجراح الذي يستطيع البتر والحسم بلا تردد، وأن العوامل الخارجية معوقة بدرجة كبيرة ولا تراعي الصالح اللبناني. ولذلك فإنّ إعادة إنتاج حكومة د. حسان دياب، وتنقيحها بتوافق سياسي عاجل، مع الأخذ بضرورة «التدقيق القضائي» الذي يصرّ عليه الرئيس عون، وهو الأمر الذي يستلزم استبعاد الحريري من المشهد وإلغاء تكليفه بتشكيل الحكومة، وإلا فإنّ هذا المشهد القائم سيظلّ فترة بلا سقف أو أفق، وتتعقد معه المشاكل خاصة في ظلّ استمرار سلامة على رأس المصرف اللبناني المركزي، والموجود بدعم خارجي فجّ، مع ازدياد تدهور الأوضاع الاقتصادية، واستمرار معاناة الشعب اللبناني، الذي لا يستحق ما هو موجود، بل يستحق الأفضل بالفعل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى