أولى

وما المال والأهلون إلا ودائعُ ولا بد يوماً أن تردّ الودائع (لبيد)

 بشارة مرهج*

مهما كان الرأي، سلبياً أو إيجابياً، حيال التحرك الاستثنائي الذي تقوم به القاضية غادة عون بمواجهة المؤسسة المصرفيّة فلا بد من الاعتراف بأن هذا التحرك ما هو إلا انعكاس حاد لحالة التعثر التي تعتري مسيرة العدالة من جهة، وهيمنة السياسة الثقيلة على القضاء من جهة أخرى، وما ينتج عنهما من سخط لدى جمهور متروك ومطارد لم يعد يعرف من أين تأتيه الضربات.

فعندما تتم عرقلة التحقيق في جرائم أساسية هزّت كيان البلاد وسحقت المواطنين سحقاً، كما حدث في جريمة المرفأ وجريمة تهريب الأموال، فضلاً عن فضائح الشهادات الجامعية المزوّرة والكبتاغون واللحوم الفاسدة والأسماك النافقة والسلع المدعومة «المصدّرة» إلى مختلف القارات، من دون أن ننسى بالطبع صفقات الكهرباء ومحطات التكرير وسواها من مآثر القطاع العام، وعندما يتعذّر على المواطن الحصول على أمواله من المصرف خلافاً للعقد الموقع بينهما، وعندما يتملص «كبار» من مسؤولياتهم تحت هذا العنوان أو ذاك، عندما نشهد كل ذلك فلا عجب أن ينفجر الناس غضباً وخاصة الذين يعاينون الأوضاع عن قرب ويرون بأم العين كيف تنتهك القوانين وكيف تستباح الحقوق.

وتشتدّ قوة الانفجار عندما تنكشف أمام الرأي العام همة ملحوظة لدى السلطات في ملاحقة كل مَن أدعى أو احتجّ أو اعترض على ما يجري من مخالفات وكأن المطلوب في لبنان كم الأفواه وترك المرتكبين يسرحون ويتمتعون بما اقترفت أيديهم بدلاً من أن يخضعوا للمساءلة والمحاكمة العادلة.

والأدهى من ذلك أن هذه العملية الخارجة عن كل منطق وقانون تجري في ظل معارك إعلامية صاخبة هدفها الأول التشكيك بالحقائق وتبييض صفحة المعتدين على حقوق الدولة وأموال المودعين، مما يعمّق الجرح لدى الناس التي لا تملك منابر إعلامية تستطيع من خلالها الردّ أو التوضيح فيبقى الأثير حكراً على أطراف المنظومة الحاكمة وملحقاتها تستخدمه بالطريقة التي تخدم أغراضها الوضيعة.

إن ذلك يحدث كل يوم وبطرق ذكية، وأحياناً غبية، تبعاً للأجهزة والأشخاص الذين يمارسون اللعبة الإعلامية بعيداً عن أخلاقياتها. ومع تزايد استخدام هذه اللعبة الخبيثة يزداد منسوب الاحتقان لدى الناس ضد منظومة حاكمة فشلت في كل الميادين إلا في ميدان سرقة المال العام والسطو على المال الخاص حتى وصل بها الأمر إلى سرقة أموال الدعم وأدوية الأمراض المزمنة وحليب الأطفال. هذا مع العلم بأن أموال الدعم هي أموال تعود لصغار المودعين وليس لكبارهم الذين تمكنوا من تهريب أموالهم بالتواطؤ مع نافذين.

فإذا كانت هذه هي الحال التي وصلنا إليها «بفضل» أهل الربط والحل فلا يستغربن أحد أن ينفجر كثيرون بوجه السلطات ومكرها واحترافها التمويه على الموضوع – الأساس والتركيز على آثاره وتفاعلاته التي يستحيل ضبطها أو كبتها كأننا في مختبر للكيمياء.

بالأمس استمعت الى محطة تلفزيونيّة معروفة تطرقت إلى موضوع القاضية غادة عون وأعطته وقتاً قياسياً. وعلى الرغم من التوسّع في تغطية الخبر وتبيان خلفياته ومخاطره إلا أن المحطة «تكتفت» تماماً عندما كان السياق يستوجب التطرق الى لب الموضوع والمتعلق بشركة «مكتف» وإمكانية ضلوعها في نقل الأموال لمحظيين إلى الخارج في لحظة منعت فيه السلطات المصرفية هذا الأمر على المودعين عامة. وبفضل بعض الإعلام أصبح الموضوع هو دخول المدعي العام الى مبنى الشركة – وهذا حق له أو لها – وليس الأموال التي خسرها لبنان جراء أفعال جرميّة بدأ القضاء الأوروبي يسأل عنها طالباً تعاون القضاء اللبناني معه في هذا الشأن.

فالمسألة الجوهرية هنا تكمن في مساءلة الشركة المعنية فيما إذا كان عملها قانونياً أم مخالفاً للقانون، وهنا مربط الفرس الذي كانت القاضية عون تبحث عنه. ربما كانت السيدة عون منفعلة أو مستعجلة، لكن هذا لا يغير في جوهر الموضوع.

فالأصل هو استعادة الناس لحقوقها وأموالها بواسطة القضاء اللبناني. أما من يدعو الى أن يكون كل تصرف قضائي ضمن الأصول وضمن المؤسسات فبالتأكيد هو على حق لكن المطلوب أيضاً وفي الوقت نفسه احترام المؤسسات ودعوتها الى الاضطلاع بدورها الخطير في تأمين العدالة والعودة للأصول التي تكاد تضيع تماماً تحت دعسات سياسيين لا همّ لهم سوى تثبيت مقاعدهم على أرض تميد بهم وبالبلاد.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى