أولى

أبعاد المصالحة المصريّة ـ التركيّة وتحدياتها…

 د. جمال زهران*

في إطار الصورة الكلية، بإعادة هيكلة السياسات الخارجية للدول الفاعلة في الإقليم، فإن الحادث هو ترجمة المحادثات غير المعلنة إلى واقع فعلي في شأن المصالحة المصرية/ التركية، بعد قطيعة «فوقية ورسمية»، امتدّت لثماني سنوات. حيث وصل القاهرة وفد رفيع المستوى برئاسة نائب وزير الخارجية التركي، وعضوية عدة شخصيات مسؤولة تركية، للالتقاء بنظرائهم في القاهرة، ووزارة الخارجيّة المصريّة. وحسبما نشر الخبر بصيغة واحدة على موقع كلّ من وزارتي الخارجية التركية والمصرية وباللغة العربية، الأمر الذي يؤكد من البداية أنّ التنسيق يجري على أعلى مستوى، ولا يترك للظروف أو حرية الصياغة على هذا الجانب أو ذاك.

ويهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد المصالحة المصرية ـ التركية، والتحديات والمستقبل. فمن الواضح أنّ لكلّ من الدولتين (مصر – تركيا) أهدافاً من وراء هذه المصالحة.

فعلى الجانب المصري، فإنّ الهدف السياسي له أولوية كبرى ومقدم على ما عداه من أهداف اقتصادية أو غيرها. فالنظام المصري يستهدف احتواء الإعلام الموجه من تركيا على خلفية دعم الإخوان، ضدّ النظام المصري، ومن ثم التخلص من قوى معارضة لها من التأثير الكبير على صياغة الرأي العام المصري.

حيث إنه لا توجد معارضة خارجية لمصر ونظامها الحاكم، سوى تلك المنصات المدعومة من تركيا وتنطلق من أراضيها، ومموّلة من دول خليجية أساساً.

وبالتالي فإنّ الدافع الرئيسي لإقدام النظام المصري على هذه المصالحة بعد هذا العداء التركي الشديد له، هو تحقيق ثمن إيجابي للنظام يتمثل في وقف هذه القنوات المعارضة أو تغيير نبرتها المعارضة ضدّ النظام. وتأتي الأبعاد الأخرى الاقتصادية وغيرها في المرتبة التالية.

وعلى الجانب الآخر، تستهدف تركيا تحقيق المصالح الاقتصادية وكسر العزلة عليها نتيجة سياسات أردوغان العدوانية مع مصر وسورية والعراق، والتصارع في ليبيا، فضلاً عن المشاكل القديمة والمتجددة مع قبرص واليونان. ولذلك فإنّ المصالح الاقتصادية لدى أردوغان، مقدّمة عن المصالح السياسية التي تأتي أو تتحقق تباعاً. فقد تحقق لها المصالحة والتطبيع مع النظام المصري، تحقيق الهدوء والاستقرار في ليبيا مما يوفر أعباء ضخمة على الميزانية التركية، كما أنّ التصالح يُدخل تركيا في منتدى الغاز في شرق المتوسط، وتحقيق ترسيم الحدود بين مصر وتركيا وليبيا، بما يحقق استثماراً أفضل في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهي تحقق مصالح متوازية لمصر أيضاً في البحر المتوسط.

أما الجانب السياسي في التصالح، فإنه قد وردت على لسان وزير الخارجية التركي (جاويش أوغلو)، بأنّ تركيا تختلف مع مصر في توصيف جماعة الإخوان على أنها «تنظيم إرهابي»، بينما تركيا تراها منظمة مدنية لها الحق في ممارسة كافة الحقوق السياسية والمدنية!

وبطبيعة الحال فإنّ المصالح الاقتصادية ستحقق لمصر، كما هي لتركيا، إلا أنّ الملاحظ من خلال تصريحات وزير الخارجية المصري (سامح شكري)، أنّ مصر تطالب تركيا بإعمال مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتهديد الأمن القومي المصري، من خلال السماح لمنصات إعلامية تتبع جماعة الإخوان الإرهابية، بمهاجمة مصر والتدخل في شأنها.

إذن هناك أهداف ودوافع لدى كلّ من تركيا ومصر، من وراء هذه المصالحة، إلا أنّ العامل الأكثر تأثيراً في المسارعة الفجائيّة للتقارب لتحقيق التصالح بين الدولتين، هو تغيير الرئيس الأميركي، بسقوط ترامب، وتولي جو بايدن الحكم، مما دفع الطرفين إلى التقارب العاجل، بتغيير البيئة الدولية. ومن الواضح أنّ تعليمات المركز الذي يتمثل في إدارة بايدن، للحلفاء والتابعين في الإقليم بضرورة المسارعة في التقارب، على خلفية الانسحاب المنظم لأميركا من الإقليم، والعودة للاتفاق النوويّ، وهو الذي يخلق مناخاً مختلفاً يستلزم تضامن الحلفاء في مواجهة إيران مستقبلاً. ولذلك فإنّ تقارباً حتمياً وبمرونة من كلّ الأطراف، جاري التحقق بين الدول المثلث وهي تركيا/ مصر، وتركيا/ السعودية، وفي الوقت نفسه تهدئة سعودية/ إيرانية، وتهدئة سعودية/ سورية، الأمر الذي قد يؤثر على الكيان الصهيوني ويخفف من ضغوط الـ «نتن..»، على إدارة بايدن.

ولذلك فإنّ توقعاتي، تتمثل في حدوث مرونة كبيرة بين الأطراف الإقليمية وخاصة بين مصر وتركيا، بتخفيف قبضة النظام المصري على جماعة الإخوان في الداخل بالمزيد من الإفراجات المتكرّرة والمستمرّة على المساجين الإخوان، وقد حدث ذلك فعلاً، مقابل التشديد من جانب النظام التركي على قنوات الإخوان الموجهة من تركيا، لتخفيف تدريجي ضدّ النظام المصري، وهو قد حدث بالفعل حيث تمّ استبعاد لغة الهجوم المباشر على الرئيس المصري، مع الاستمرار في نقد أفعال وتصرفات الحكومة المصرية وسياساتها.

ولا يجب إغفال أنه رغم الخلافات السياسية بين كلّ من مصر وتركيا، طوال السنوات الثماني الماضية، إلا أنّ حجم العلاقات الاقتصادية والميزان التجاري لا زالت مستمرة، بل وبمعدلات أكبر. وعلى سبيل المثال وفقاً للمعلومات المتاحة عن عام 2018، فإنّ صادرات تركيا لمصر (3.05) مليار دولار، مقابل صادرات مصر لتركيا (2.19) مليار دولار، وبزيادة نحو (29.4%) على الجانب التركي بالمقارنة بعام 2017، وبزيادة أقلّ على الجانب المصري نحو (9.68) مقارنة بعام 2017م. بينما في عام 2019 (الأشهر السبعة الأولى، فإنّ صادرات تركيا لمصر بلغت (2.2) مليار دولار، بزيادة (24.9)% عن الفترة نفسها عام 2018، وبلغت صادرات مصر لتركيا (1.76) مليار دولار، بزيادة محدودة عن العام السابق (الفترة نفسها).

أيّ أنّ حجم العلاقات التجارية تفوق (5) مليارات دولار بين البلدين، ولم تتراجع عما كان سائداً في عام 2013، بل زادت بمعدل متوسط نحو (25%)، الأمر الذي يؤكد عدم تأثر العلاقات الاقتصادية بالبرود السياسي بين البلدين.

إلا أنّ الجديد في الأمر، هو اشتراط مصر أيضاً، لانسحاب تركيا من سورية، والعراق، لخلق حالة استقرار حقيقي في المنطقة، ولذلك حديث آتٍ بإذن الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى