مرويات قومية

المربّي الأمين ميشال الياس عين الشايبة

من الامناء الذين كان لهم حضورهم في الأربعينات والخمسينات ويعرفه جيداً رفقاء منفذية الغرب، كما يعرفه الآلاف من تلامذته في «مدرسة الاتحاد» التي أسّسها في عاليه في بداية أربعينيات القرن الماضي، وعبرها انتمى العديدون الى الحزب، إذ أرادها الأمين ميشال مدرسة قومية اجتماعية ومنبراً لسعاده، لا مؤسسة أكاديمية تخرّج شباباً مسطحي الرؤوس عديمي المقاصد الفكرية السامية والتطلعات الاجتماعية والسياسية الراقية.

*

من الرفيق د. إيلي الياس، ابن أخ الأمين ميشال، المواطن عبد الكريم، هذه المعلومات القيمة عن الجد الرفيق الراحل الياس الخليل عين الشايبة.

الأمين ميشال هو الابن الثاني تدرّجاً للرفيق الياس الخليل عين الشايبة (الياس) وهو من الأوائل الذين آمنوا بعقيدة سعاده والذين تعاقدوا معه.

الرفيق الياس الخليل كان يمتلك روحاً متمرّدة على الظلم والفقر والطائفية والمذهبية.

جعل من «أسفل» منزله (القبو) في مرمريتا ملجأ للفقراء والمشرّدين في المنطقة وجوارها، بغضّ النظر عن معتقداتهم الدينية وميولهم الفكرية – الروحية. كان يذهب الى منازل الميسورين ليجمع ما تيسرّ من مال وقوت ليطعم الفقراء الطيبين.

شغل فكر سعاده حياته وكان محور أحاديث مع كلّ زواره وما اكثرهم كانوا يومئذ. حتى انّ عدداً لا يستهان به من رفقائنا في وادي النصارى والجوار أقسموا اليمين متأثرين بحواراتهم مع الرفيق الياس الخليل.

كان منزله في مرمريتا بيتاً قومياً اجتماعياً بصدق وقوة. زاره حضرة الزعيم وتغدّى فيه خلال زياراته إلى منطقة الوادي وتلكلخ، وأظهر إعجابه وتقديره باندفاع الرفيق الياس ومناقبيته القومية الاجتماعية.

نزلت في ذلك المنزل حضرة الأمينة الأولى مرتين، حيث أمضت كلّ مرة يومين أو أكثر خلال حديثي مع الدكتورة صفيّة سعاده، أكدت لي ذلك. كما أنها تذكر انّ والدتها الأمينة الأولى فقدت خاتمها للحظات في المنزل. الخاتم تقدمة من حضرة الزعيم لها، ثم وجدته في إحدى زوايا المجلس.

قال لي أكثر من رفيق من وادي النصارى، واحدهم الرفيق فؤاد مسوح والد الأمينة بشرى مسوح انه يوم وفاة الرفيق الياس الخليل، أقيم له مأتم مهيب لم تشهد مثله منطقة الوادي الى الآن. وصل رتل السيارات وقتئذ القادمة من لبنان والأردن والشام الى قرية الحواش، حيث أمّ القوميون الاجتماعيون والمواطنون المنزل للتعزية.

إنّ تفاني الأمين ميشال الياس العقائدي سببه الأساس هو المناخ المناقبي الذي نشأ فيه والذي بناه وكرّسه والده الرفيق الياس.

بعد استشهاد المعلم، كُثُر من القوميين اهتزت ثقتهم بالحزب وتضعضع إيمانهم بالعقيدة على عكس الرفيق الياس الذي ظلّ يقول لرفقائه محبي الحزب «انّ شهادة الدم التي قدمها المعلم ستكون حجر الزاوية في انتصار هذه العقيدة في الأزمنة الآتية».

وأذكر تماماً ما قالته لي عمتي ليلى شقيقة الأمين ميشال انه عندما كان يصارع الموت وقبل ان يستسلم قلبه بدقائق رفع يده بالتحية وقال: «تحيا سورية ويحيا الزعيم الخالد انطون سعاده»،

فقالت له زوجته:»هلق وقتها يا الياس؟» فردّد من صميم قلبه: «هلّق، هلّق وقتها» وأسلم الروح لإله الشمس جوبيتر.

يقول في رسالة وجهها لابنه البكر عيسى في المغترب (فرنسا) وذلك بُعيْد استشهاد الزعيم بأشهر قليلة «انّ العقيدة تكتسح فكر الشباب في المنطقة والجوار، كالنار في الهشيم».

*

رجوعاً للأمين ميشال فلقد عرفته في عاليه وكنت صبياً صغيراً ثم عرفته لأشهر عدة عام 1976، حيث هُجّرنا من الحدث على أيدي ما يسمّى بـ «الميليشيات المسيحية». كان يحدثني دوماً عن العديد من المحطات في حياته الحزبية، عن حقبة الأربعينيات قبل وبعد شهادة المعلم، عن معارك شملان، عن أيام فؤاد شهاب والمكتب الثاني وعن ترحيله قسراً الى مرمريتا من قبل السلطات اللبنانية، لأنه لم يكن يحمل الهوية اللبنانية.

يوم حملته سيارة التاكسي من السجن الى مرمريتا مباشرة قال يومها قصيدة رائعة لم أعد أذكر منها إلا هذين البيتين:

لعن الله الزمانا

يوم ان جن وخانا

قد مخضناه وفاء

فلقيناه خيانا.

ولد الأمين ميشال في مرمريتا عام 1913. والده الرفيق الياس خليل عين الشائبة. عرف باسم ميشال الياس. والدته حنّة صبّاغ.

درس الابتدائية في مرمريتا ثم التكميلية والثانوية في دمشق حيث كان من أساتذته ميشال عفلق، قبل ان ينتقل في منتصف الثلاثينيات إلى بيروت مع شقيقه الأكبر عيسى الذي نقل الى موقع للجيش الفرنسي قرب ميدان سباق الخيل في بيروت.

منح رتبة الأمانة اواسط العام 1956 تقديراً لروحيته ولعطاءاته ولالتزامه الواعي.

انتقل بعد اعتقاله اثر الثورة الانقلابية أواخر 1961 إلى مسقط رأسه مرمريتا وبقي فيها الى أن وافته المنية، وكان يعصره الألم كلما تحدث عن التعذيب الذي طال القوميين الاجتماعيين اثر الثورة الانقلابية، والرفقاء الذين تعرّضوا للتصفية.

تمّ تعيينه مدرّساً ثانوياً للغة الفرنسية بالرغم من حساسية النظام وقتئذ من الفكر القومي الاجتماعي، وكلّ من انتمى إليه، وذلك لسعة معرفته باللغة الفرنسية.

 بقي على إيمانه القومي الاجتماعي، متحدثاً عن العقيدة، معتذراً عن الخوض في مسائل حزبية إدارية، مستعيداً في ذاكرته مرحلة إقامته في عاليه، والمدرسة التي أسّسها والدور الذي قامت به على الصعيدين الحزبي والتربوي.

لم يقترن الأمين ميشال بامرأة. كان يقول دائماً «الحياة لا تستمر بالضرورة بالدم ولكن بالفكر. انّ كلّ الشباب والصبايا الذين أتمكن من إدخالهم إلى الحزب هم أولاد لي بالفكر والروح».

*

اذ نتحدث عن الأمين ميشال الياس لا بدّ ان نتحدث أيضاً عن شقيقه الرفيق خليل الذي كان بدوره مناضلاً قومياً اجتماعياً.

ولد الرفيق خليل في مرمريتا عام 1922. درس الابتدائية في مرمريتا، أما التكميلية والثانوية فمع شقيقه الأصغر عبد الكريم، والد الرفقاء إيلي ونديم وسرج، في مدرسة الاخوة المريميّين (الفرير) في طرابلس.

انخرط الرفيق خليل في جيش الشرق ايام الانتداب الفرنسي برتبة عريف ثم ترقى الى رتبة معاون أول. أظهر في حياته ذكاء حاداً وميلاً شديداً للتعاطي بالأرقام وعلم الحساب، فحاز على ديبلوم في علم المحاسبة وبات من أقدر المسؤولين المحاسبين في الجيش الشامي آنذاك.

على اثر حادثة المالكي اعتقل كما العديد من القوميين الاجتماعيين وعذب عذاباً شديداً، فقد تمّ اقتلاع أظافره، وكيّه بالكهرباء.

طرد من الجيش الشامي اثر حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي، وحرّم عليه العمل كباقي القوميين الاجتماعيين. انما طُلب للعمل في دائرة المحاسبة والتدقيق في الجيش بصفته المدنية، نظراً لكفاءاته، ولمعرفته بالأنظمة الحسابية المعتمدة في الجيش الشامي، مستمراً بالعمل في المؤسسة العسكرية الى ان تقاعد في نهاية السبعينات.

وان لم يتولّ الرفيق خليل مسؤوليات حزبية ادارية انما كان محافظاً على قسمه القومي الاجتماعي في كلّ أبعاده، وبشكل خاص لجهة تربية أولاده. فجميعهم مؤمنون بالعقيدة القومية الاجتماعية، ومن بينهم رفيقان الياس وإحسان، والباقون مواطنون أصدقاء وصالحون (شاب وابنتان).

*

الأمين بديع خوري الذي كان تتلمذ على يد الأمين ميشال الياس يفيدنا عنه أنه كان واسع الثقافة، هادئ الطباع، ضليعاً باللغتين الفرنسية والعربية، مدرّساً لهما، يتصرف بنظامية مع الاساتذة والطلاب، وكان منصرفاً بكليته الى مدرسته قاطناً فيها، عاملاً على تفوّق تلاميذه في دروسهم.

وعن مدرسة الاتحاد يوضح الأمين بديع أنّ بناء المدرسة كان ملكاً لوقف الروم الارثوذكس في عاليه، التي كانت تعنى بمدرسة لعدد من الصفوف الابتدائية الى ان تسلّم إدارتها الأمين ميشال عام 1951 – 1952 فجعلها تكميلية، للبنين والبنات، ولها حضورها، بحيث انّ أهالي عاليه من طائفة الموحدين الدروز راحوا يسجلون أبناءهم للدراسة، أسوة بأبناء الطائفة المسيحية.

يضيف الأمين بديع انّ البناء كان يُستعمل في فصل الشتاء، كمدرسة، أما صيفاً فكان يقيم فيه، في السنوات الأولى من تأسيسها، السيد ميشال العمّ من أهالي الأشرفية في بيروت، فيما الطاولات والكراسي وأغراض المدرسة في إحدى الغرف الجانبية.

من الأساتذة، يتذكر الأمين بديع خوري، كلا من الرفقاء صبحي أبو عبيد(1)، حافظ سلمان، يوسف الجردي، سعيد صعب شميط، والمواطنين يوسف شلهوب وابراهيم خوري.

ومن التلامذة: الرفقاء عصام العريضي وشقيقه سمير، سامي محمد ملاعب، نبيه ورفيق الحلبي، مسعود صعب شميط، والنائب الحالي أكرم شهيّب، الرفيق الدكتور محمد الجردي والصحافي الرفيق سهيل قسيس.

بعد حصول الثورة الانقلابية اضطر الأمين ميشال الى مغادرة لبنان الى مسقط رأسه مرمريتا، فأقفلت المدرسة بعد ان كانت حققت نجاحاً باهراً.

وعمد وقف الطائفة الارثوذكسية في عاليه الى هدم البناء حيث كانت تستفيد منه مدرسة الاتحاد، وبناء قاعة الى جانب كنيسة مار الياس، ما زالت قائمة الى اليوم.

من معلوماته انّ الأمين ميشال الياس كان ناشطاً في المنفذية وتولى مسؤوليات في هيئتها. من نشاطاته انه كان يتنقل في اوائل الخمسينات على دراجة نارية يقودها الرفيق داود خفاجة(2) فحصل حادث أدّى الى كسر في رجله استمرّ طويلاً.

كان الأمين ميشال حريصاً على صحته، ومن الطرائف انه كان يجزّئ السيجارة الواحدة الى جزأين، يكتفي بالنصف الاول منها، ثم، بعد ساعات، يتناول النصف الآخر.

هوامش

1 ـ من معاصر الشوف. تولى مسؤلية عميد الداخلية في أواخر خمسينات القرن الماضي. شارك في الثورة الانقلابية وأسر.

2 ـ سقط شهيداً في حوادث العام 1958.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى