أولى

الحرب الرابعة على غزة انتصارات ومحاذير…

 سعادة مصطفى أرشيد _

أعادت حرب أحد عشر يوماً، الاهتمام بالشأن الفلسطيني إلى أيام مضت، فإدارة بايدن حتى اشتعال هذه الحرب تعاملت مع الشأن الفلسطيني باعتباره رماداً لا حرارة فيه، وبالتالي فلا داعي لبذل الجهد في هذه المسألة الساكنة – الباردة، وهو أمر يعطي حليفهم (الإسرائيلي) وقتاً كافياً ومريحاً، لالتهام مزيد من الأرض، ومزيد من القدس، ولجعل «صفقة القرن» تسري بمفاعيلها (مع الاعتذار للأمين العام لحزب الله)، فاستطاعت الحكومة (الإسرائيلية) بدورها الاستفادة من ذلك، ونفذت كثيراً مما تريد صانعة من أفعالها حقائق على أرض الواقع.

لكن الحرب ألقت حجراً كبيراً في الماء الراكد، وعلى وقع الصواريخ وعلى وقع الوحدة التي تجلت في الشعور والسلوك الفلسطيني الجمعي استردّت المسألة الفلسطينية الاهتمام، وانكشف تهافت وهو أنّ الوضع الداخلي (الإسرائيلي)، وضعفه وهشاشته، وهو المجتمع الذي عرفه العالم ذات يوم بأنه مجتمع إسبارطي مقاتل، وتآكلت قدراته الردعية بشكل لم يسبق له مثيل.

يرى أبو الاستراتيجية، الضابط الألماني كلاوزفيتز، أنّ الحرب هي فعل سياسي أدواته السلاح، وبالتالي فإنّ نتائجها هي سياسية، أي بتحقيق أهدافها، ومع النشوة التي يشعر بها مواطننا، نشوة الشعور بالتفوّق والنصر العسكري للمقاومة – لنا نحن -، إلا أننا نحتاج إلى قراءة سياسية متأنية، وذلك احترازاً من أن تدخلنا بعض زواريب التسوية في حالة إحباط لا نريدها.

لم تكن هذه الحرب قراراً منفرداً للمقاومة في غزة، وإنما كانت بالتنسيق الكامل مع المحور، ولكن نتائجها جاءت جزئياً كذلك، فيما ذهب الجزء الأكبر منها تنسيقاً مع مصر، كانت أهداف الحرب المعلنة، حماية القدس وتحديداً المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح المهدّد بالمصادرة، فيما هدفها المضمر – وهو هدف حيوي ومباح – هو رفع الحصار الظالم عن غزة وفتح المعابر لتعمل بشكل طبيعي، وتحسين الوضع المعيشي البائس وبالغ الصعوبة الذي يعيشه أهلنا في غزة، والذين تجاوزت معاناتهم وعذاباتهم المعقول، لا بل إنها تحوّلت إلى كارثة إنسانية.

سبق لغزة ومقاومتها أن اشتبكت مع (الإسرائيلي) في حروب عدة منذ عام 2008، أطلق عليها الإسرائيلي أسماء عسكريتارية مرعبة، بقعة الزيت اللاهبة، الرصاص المصبوب… وكانت تنتهي جميعها بإيقاع دمار بالغ في غزة، وإزهاق أرواح المدنيين والأبرياء، ثم بوساطة مصرية منفردة، أو تكون بها مصر الأولى، وكانت تبدأ الحرب من جديد، من دون أن تلتزم (إسرائيل) بما تعهّد به الوسيط المصري، في حرب مطلع 2009، عقد على أثرها مؤتمر شرم الشيخ، وقدّر المؤتمرون أنّ غزة تحتاج إلى خمسة مليارات دولار، وقال وزير خارجية مصر في حينه احمد أبو الغيط في بيان اختتام المؤتمر، أن في حوزتنا أربعة مليارات وثلاثمئة مليون من المبلغ المطلوب، لكن لم يصل غزة من ذلك إلا أقلّ القليل، وكانت غزة على موعد مع حرب 2014، التي دامت خمسين يوماً، وانتهت أيضاً بوساطة مصرية وتعهّد برفع الحصار، الذي انتهى بفتح معبر رفح في أوقات نادرة، وتعهّد قطري بإعادة إعمار غزة، الذي نفذ منه مقدار لا يستحقّ الذكر وانتهى أمره على شكل الحقيبة المحشوة بالدولارات التي يدخلها السفير العمادي إلى غزة شهرياً، بموافقة وحراسة (الإسرائيلي).

بناء على ما تقدّم، فمن حق غزة والمقاومة، ومن حق كلّ مَن يتابع أن يتساءل، هل كلّ ما جرى منذ 2008، لم يكن إلا تقاسماً وظيفياً مصرياً – «إسرائيلياً»؟ وإنْ كانت الوساطة المصرية هذه المرة قد أعادت الروح للعلاقات المصرية – الأميركية، ولكن هل تختلف هذه المرة عن سابقاتها؟ أم أنها هي تكرار لا يجب أن يقبله المؤمن الذي لا يُلدَغ من جحر واحد مرتين؟

يقول مكتب نتنياهو إنّ اتفاق وقف إطلاق النار، هو اتفاق شفهي ومن دون نص مكتوب ومن دون أية شروط، فيما قال أكثر من ممثل للمقاومة في الخارج إنّ قائمة من الشروط تقدّمت بها المقاومة مكتوبة للوسيط المصري، منها وقف الاعتداءات (الإسرائيلية) على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، ورفع الحصار الظالم عن غزة وإعادة إعمارها، وإطلاق سراح الذين اعتقلوا بسبب الأحداث الأخيرة في المسجد الأقصى وباب العمود وحي الشيخ جراح، أو أثناء الحرب الأخيرة، لكن ما يبدو ممّا صدر عن مكتب نتنياهو، وما يجري على أرض الواقع، أنّ الوسيط المصري قد وضع الشروط الواردة آنفاً في درج الإهمال، ولم يطلع «الإسرائيلي» عليها، وانّ «الإسرائيلي» لم يقبل بها أصلاً.

تثبت الأحداث اللاحقة، أنّ «الإسرائيلي» لا رغبة لديه في تنفيذ أيّ من هذه الشروط، وإنْ توافرت الرغبة فقد لا تكون لديه القدرة على تنفيذها، لاعتبارات استراتيجية، وسياسية داخلية، طبعاً باستثناء شرط وقف إطلاق النار. الاعتداءات على الأقصى متواصلة من المستوطنين بحماية ورعاية شرطة الاحتلال، ومن الجدير ملاحظته أن لا رئيس حكومة في (إسرائيل) نتنياهو أو غيره يستطيع أن يبقى رئيس حكومة إنْ أعطى أيّ تعهّد بخصوص المسجد الأقصى، والذي هو(جبل الهيكل) عند ناخبيه وعند البرلمانيين الداعمين له، وكذلك على حي الشيخ جراح، وفي القريب ستنفذ حكومة الاحتلال عبر متطرّفيها حملات غير مسبوقة تستهدف احتلال أحياء وبيوت والاستيلاء على عقارات في سلوان ووادي الجوز وأحياء أخرى، وسيكون ردّ حكومة الاحتلال في أحسن أحواله، ليس أكثر من إحالة المسألة إلى قضائهم غير النزيه، والمعروفة قراراته مسبقاً، لم تفرج حكومة الاحتلال عمّن تمّ اعتقالهم، وإنما تقوم بحملات ليليّة لاعتقال المزيد من الناشطين في القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية، يربط «الإسرائيلي» فكّ الحصار وإعادة الإعمار وفتح المعابر بمجموعة معقدة ومتدحرجة من الشروط التي لا يقدّمها دفعة واحدة وإنما لا تأتي دفعة واحدة، منها تسليم المفقودين (الإسرائيليين)، وتفكيك المنظومة الصاروخية وووو… شروط لها أوّل وليس لها من آخر، ولنا في ما حدث مع السلطة الفلسطينية بعد توقيع أوسلو، مثال حي لمن يفكر بالسياسة بحسن نية، أو لمن يدفع ثمن البضاعة قبل تسلّمها والتأكد من مطابقتها للمواصفات المتفق عليها.

هذه الحرب لها ما لها من إيجابيات مهمة وخطيرة، وأمر يجب البناء على إيجابياته، فقد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ غزة شعباً وأرضاً ومقاومة ليست يتيمة، بل هي ابنة شرعية غالية على المقاومة ومحورها، وأثبتت أنّ صواريخها جدية لا عبثية، وتعطي من النتائج والفعالية والدقة ما لم يكن في حسبان أعدائها أو منتقديها، وأثبتت أنّ سويعات من العزة والكرامة تفوق في قيمتها سنيناً من العجز والخضوع والذلّ، ولكنها توجب ملاحظة أنّ مصر التي نحبّ، والتي طالما كانت ظهيراً ونصيراً وشريكاً للأمة، تمرّ بمرحلة نتمنّى أن لا تطول، فتجربة حروب غزة، قد زرعت بذور الشك في الدور المصري وأهليته ونزاهته، الأمر الذي يجب أن يبقى في حسبان المقاومة ومحورها. فلا بدّ من جولة جديدة.

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في جنين – فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى