ثقافة وفنون

أحد أحد يا شعب فلسطين

} هنادي رفعت لوباني*

«شوف مصيــبة غيرك، بتــهون علـيك مصيبتك»، عبارة مواساة قد يجــدها الكثــيرون منطــقيّة. اما أنــت يا فلســطيني، فمجرد تفكــيرك أو معرفــتك أو ســماعك بمصاب فلســطيني آخــر، لــن تنقشع فظاعة مصيبتك، ولن تنطفئ نيران شجونك.

سيوقظ ألمُه ألمَك المزمن، وتمتزج رائحة الدم المندفعة من أوردته مع طعم الرماد في حلقك.

ستتدفق جروحه وتتبعثر فيك، وتنقح عليك، وتطفح سراً مع ذكرياتك الندية المضرّجة بالدماء.

ستراكم مأساة تنمو فوق مأساة، وتكثفهم وتعمقهم. سينهش قلبك نبض يلهب قلبه، وينتفض جسدك لانتفاضة جسده.

ستختنق فيك الحروف لغصة صوته في تأوّه انساب عكس الصدى.

وسينعقد لسانك لومضة ابتسامة تكافح دمعة في مقلتيه.

هذا هو الصمت الفلسطيني: ذكريات مترحلة إلى أقصى اللاوعي، آهات قلوب مكابرة على جراحها، كرامة الآلام العميقة، عنف الفقد ولوعة الاشتياق في قاع الحنين، ذروة انفعال يعطّل سيل اللغة ويحوّلها إلى سكون يغلي دماً.

عبث البوح من تماهٍ ينهض من مفردة واحدة، تعبير عن تكاتف في تطرفه وحدّ صبر يسوع.

يجتاحك همُّه كجزء من همك، ويتجلّى كربك كبعض من كربه. قهر ماثل، ووجع بينكم رابض.

وبمحض لحظة سترتدّ إلى القصة والتجربة الجماعية، الحدث المفصلي صاحب الأثر الأكبر، ورغم تفاوت آثاره في حياة الفلسطينيين.

أحد أحد يا شعب فلسطين.. نكبة واحدة مستمرّة. نحمل صليبنا جسداً يتبعه جسد، وجيلاً بعد جيل. نحمله بإرادتنا أو على الرغم منا. نرزح تحت نفس ثقله، وإن كلاً حسب ظرفه وقدرته على احتمال الجرح ونزف الدم والألم والاضطهاد. كم ارتجّ هذا الصليب من جرح مسمارين وأكثر، فلم نسقطه عن كتفنا. وحاشا أن نستحي به. إن انحنت من ثقله ظهورنا، نميل به يميناً ونراوغ شمالاً.

إن حاولوا أن يســقطوه ويســقطونا، ندق الأرض بهتاف أقدامنا، ونــشق فيها أخدوداً على أخدود. نرفع صلــيبنا ونعانقه، ونمضي قدماً مجلودين ومفتخــرين، مهلكين وفرحانين. }ضعفاء فحينئذ أقوياء}.

وإن صهل الموت، ندنو بتصوّف وفينا شهقة كالاشتهاء المنتشي. لا نحبّ العذاب في ذاته، بل نطلبه ونشتهيه لأجلك يا فلسطين، فدرب آلامك هو معراجنا إلى ملكوتك. عمدناك بدمنا وخبز انتمائنا. لا نخاف من مكر اللصوص وغضب الجلادين وضجيج المرتدين، فكلهم دليل الخطية، ودلالة يقين بشارة بعثنا فيك ويوم عودتنا إليك.

تستحقين أن نبذل كل غالٍ ونفيس في حبك وفداك. لا نتذمر منك، ولم نشتكِ، ولن نستبدل صليبك؛ أنت امتحان إيماننا وصبرنا وكدنا وسعينا.

نتعلم محبة الصمود والكفاح والتضحية والشهادة في سبيل برك.. فطوبانا، وطوبا نصيب كل الصدّيقين.

*كاتبة وباحثة من فلسطين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى