«إسرائيل»: عجز القوة والعودة إلى الخطر الوجوديّ
العميد د. أمين محمد حطيط*
في العام 1982 ومع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى تونس وابتعاد منظمة التحرير الفلسطينية بمقاتليها عن حدود فلسطين التاريخيّة، وبعد أن كانت اتفاقية كامب دافيد أخرجت مصر من ميدان الصراع مع العدو «الإسرائيلي»، وعملاً بالقاعدة المعتمدة آنذاك «لا حرب مع إسرائيل دون مصر»، في ذاك العام – 1982 – صدحت «إسرائيل» صارخة «لا حروب بعد الآن» ولا خطر على وجود «إسرائيل»، فالحرب التقليدية مع الجيوش أقفلت أبوابها والحرب غير التقليدية واللامتماثلة مع المنظمات المسلحة والقوى غير الرسمية أسدل الستار عليها بعد إخلاء الميدان منها.
لقد ارتسمت في المشهد الإقليمي آنذاك النقطة الأدنى في مسار الصراع مع الصهيونية وجعلت من فتنوا ولا زالوا بالمشروع الاستعماري الغربي الصهيوني وقدراته الخارقة على فعل أيّ شيء، يزدادون فتنة به ويحجمون عن مجرد النقاش في مصير هذا المشروع عامة وثمرته الحسية الميدانية «إسرائيل» خاصة، وتستمرّ فتنتهم به الآن رغم ما أصاب هذا المشروع بعد ذلك من لكمات ووقع فيه من تعثر وأنزل فيه من خسائر، فإنّ هؤلاء يستمرّون بالنظر اليه قيادة وأدوات وثماراً، على أساس انه المشروع القوي القادر على فرض ذاته في المنطقة وفعل ما يشاء أربابه، ويرون أنّ مصالحهم تكمن في الالتحاق بالمشروع والتبعية له.
وبخلاف ذلك ومن عمق المأساة وسحيق نقطة الانحدار في العام 1982 نشأت بذرة مقاومة نوعية متعددة العناوين متوحّدة على هدف مناهضة الاحتلال والاستعمار وانطلقت في المواجهة في لبنان واثقة من أنّ قدراتها الحاضرة المتواضعة قابلة للتطور وقادرة على فعل ما يمنع المشروع الاستعماري الإحلالي من الاستقرار والتجذر، ومطمئنة إلى مستقبل تتمكن فيه من تحرير المنطقة من ربقة الاستعمار والتبعية وإعادة بنائها أو تشكيلها على أساس تحرري استقلالي لا محلّ للإرادة والقرارات الأجنبية فيه بشكل يعاكس إرادة شعوبها.
نعم نستطيع أن نقول إنّ العام 1982 كان عام سقوط وولادة، عام ذروة وهوة، حيث بلغت فيه «إسرائيل» ذروة ما أرادت تثبيتاً لوجودها وأكدت أنّ القوة التي استندت اليها في إقامة كيانها، هي الأداة العملية لتثبيت هذا الوجود وإبعاده عن أيّ خطر. وتيقّنت أنّ استراتيجيتها في امتلاك القوة واستعمالها نجحت في تمكينها من القيام في 1948 ونجحت في تثبيتها بشكل نهائي في العام 1982 خاصة أنّ هذه الاستراتيجية تقوم على قوائم ثلاث برعت «إسرائيل» في استعمالها، أولها استئثار «إسرائيل» بمصادر القوة التي تجعلها متقدّمة عن محيطها بشكل واضح ويمكنها من إرساء مفهوم الرعب في صفوفهم، وثانيها حرمان الغير من امتلاك مصادر القوة التي تحقق التوازن الاستراتيجي معها، والثالث الاستفادة من القوة الدولية المركبة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لتعزيز عامل الهيبة والردع لديها.
1982 إذن كان عاماً أو محطة مفصلية في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني، عاماً بلغت فيه «إسرائيل» نقطة الذروة ودفعت فيه القوى المناهضة إلى نقطة الانحدار السحيق، عاما خرجت فيه «إسرائيل» أو على الأقلّ ظنّ من يقودها أنها خرجت من معضلة الخطر الوجودي، لتدخل في ميدان بناء الفضاء الحيوي الاستراتيجي، ولذلك تشجع شمعون بيريس على إطلاق نظرية «الشرق الأوسط الجديد المبني» بعمال ومال عربي وقيادة وسيطرة «إسرائيلية» على حدّ قوله «بمالكم وعقلنا نحكم العالم». فهل تحقق لـ «إسرائيل» ما ظنّت أنه حصل وهل وصلت «إسرائيل» فعلاً إلى حدّ الطمأنينة بعيداً عن الخطر الوجودي؟
من أراد أن يحصر نفسه ورؤيته في بعض العناوين من قبيل صفقة القرن والتطبيع مع بعض الدول العربية، وامتلاك «إسرائيل» السلاح النووي بمقدار 200 رأس على الأقل، كما وشبكة علاقات «إسرائيل» مع الخارج خاصة أميركا وأوروبا وتغلغلها الآن في أفريقيا، من أراد التوقف عند ذلك فانه سيسارع إلى القول إنّ «إسرائيل» فعلاً تخطت مرحلة الخطر على الوجود وانتقلت إلى مرحلة الاهتمام بالسيطرة والدور العالمي، لكن نظرة علمية واستراتيجية أعمق قد تقود الباحث إلى خلاصات مختلفة تتعدّى فعالية ما ذكر لتتوقف عند الجوهري والأهمّ مما لم يذكر.
فـ «إسرائيل» قامت على عنصر القوة القادرة على فعل ما يريد صاحبها، ولولا القوة التي استعملت بشكل غير مشروع ولا أخلاقي لا بل وبشكل أجرامي لما تمكنت الحركة الصهيونية من زرع الكيان «الإسرائيلي» في فلسطين في العام 1948، ولولا القوة لما تمكنت «إسرائيل» من السيطرة على نصف الأرض التي خصصها القرار 181 للعرب، ولولا القوة لما استطاعت أن تسيطر في العام 1967 على كامل فلسطين التاريخية وتحتلّ الجولان وسيناء، فحياة «إسرائيل» وبقاؤها واستمرارها رهن بوجود هذه القوة التي تستعملها متى شاءت لتحقق بها ما تريد على أيّ أرض تشاء. والقوة القادرة هي أيضاً العنصر الأساس الذي استندت اليه «إسرائيل» في إرساء الأمن داخل الكيان وأبعدت بها الخطر والنار عنه. حتى بات الأمن في المنظور الاستراتيجي كنزاً تفاخر «إسرائيل» بامتلاكه وتطوّرت النظرة إليه إلى الحدّ الذي ربط وجود «إسرائيل» واستمرارها بوجود هذا الأمن وأرسيت مقولة «إسرائيل الآمنة هي الهدف«.
وحتى تقتصد «إسرائيل» في الجهد طوّرت استعمال القوة خارج الشرعية القانونية والأخلاقية والإنسانية لتخلق الرعب الكبير في نفوس الأعداء وتمنعهم حتى من التفكير بمواجهتها دفاعاً أو هجوماً باعتبار أنّ جيشها لا يُقهَر وقوّته مدمّرة فتاكة، والسلامة والنجاة للعدو تكمن بالهرب من أمامه وعدم مواجهته… وللأسف حققت «إسرائيل» قبل العام 1982 ما أرادت ونجحت في جني ثماره في كثير من المواطن.
لكن المقاومة التي نشأت نوعياً وتنامت بعد العام 1982 أفسدت على «إسرائيل» أحلامها وأسقطت خيارات كثيرة كانت تتداولها ورسمت خطاً بيانياً مناقضاً لما أرادته «إسرائيل»، خطاً ينطلق من نقطة المنحدر الأقصى في العام 1982 ويتجه صعوداً ويعمل على التفلت من مفاعيل استراتيجية «إسرائيل» بشأن امتلاك القوة واستعمالها، ويستمرّ صاعداً حتى انه بعد أربعين عاماً تمكن من الوصول إلى مواقع لم تكن «إسرائيل» تتخيّل بأنها ستدفع اليها حيث إنّ المقاومة اليوم فرضت:
1 ـ تحوّل قوة «إسرائيل» من حيّز القوة القادرة ذات الجيش الذي لا يُقهر إلى القوة العاجزة عن الذهاب إلى حرب مضمونة النتائج. وكان هذا التحوّل أخطر ما واجهته «إسرائيل» بعد العام 1982، تحوّل أجهض ما فاخرت به من طمأنينة وأعاد طرح الخطر الوجودي مجدّداً لأنّ عجز القوة يعني خطراً على الوجود الذي تحقق بالقوة ويستمرّ بهذه القوة. وهذا الأمر نسف فكرة «إسرائيل» المطمئنة إلى وجودها. خاصة أنّ استراتيجية امتلاك القوة وحجبها عن الأعداء فشلت أمام استراتيجية المقاومة في امتلاك القوة ومصادرها وتطويرها إلى حدّ قلبت فيه القوة «الإسرائيلية» من قادرة إلى عاجزة ربطاً بالأهداف الاستراتيجية والتهديدات والأخطار.
2 ـ إفساد الأمن «الإسرائيلي». لا قيمة ولا أهمية للوجود في داخل الدولة التي أقامها المشروع الصهيوني إنْ لم يكن هذا الوجود آمناً، ولهذا أطلق العدو استراتيجية «شعب يعمل تحت النار وهو آمن»، وأنشأ الجبهة الداخلية وتزوّد بكلّ ما يلزم من أسلحة بما في ذلك القبة الفولاذية لإبعاد لهب النار عن الأماكن الآهلة. لكن مجريات الأحداث خاصة من 2006 إلى 2021 أكدت للعدو فشله في إبعاد النار عن الداخل وفشله في ضمان الأمن الداخلي ونسفت فكرة «إسرائيل» الآمنة.
ومع هذا الانقلاب الميداني والاستراتيجي سقطت رزمة خيارات «إسرائيل» السابقة التي كانت تعوّل عليها لحفظ وجودها، ولم يتبقّ عملياً بيدها إلا خيار إقامة الدولتين وهو خيار لا يتناسب مع طموح «إسرائيل» واستراتيجيتها حيث يلزمها بالحدود الثابتة وبإقامة دائمة ونهائيّة لأكثر من مليوني عربي فيها، كما انه ليس الخيار المقبول من محور الرفض لوجود «إسرائيل» أصلاً كدولة عنصرية وجسم غريب عن المنطقة وبمثابة غدة سرطانية فيها.
وبكلام مختصر نقول إنّ «إسرائيل» الآن وبعد 21 عاماً على إنزال الهزيمة الفعلية الأولى بها في جنوب لبنان وبعد سلسلة هزائم تلقتها وكانت أخيراً وليس آخراً في فلسطين وبعد أن تأكد لها عجز قوّتها وفساد أمنها دون أن ينفعها تطبيع أو سلاح، بعد كلّ هذا عادت إلى المربع الأولى لتتخبّط في دائرة الخطر الوجوديّ، وعادت تطرح فكرة زوال «إسرائيل» بشكل جدي واقعي عملي بعيداً عن البيانات والاستعراضات الفارغة لأنّ ما استندت اليه «إسرائيل» بات عاجزاً عن أداء الوظيفة.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.