أخيرة

الأمينة الأولى على العهد: لبّيكَ

 الياس عشي
مقطع أول

“في مثل ما تروي الأساطير، قال لي حامي المكان:

من هنا… من وراء هاتيك الكثبان، رأيته يتهادى، شبحاً وئيد الخطو لم أتبيّنْه في ذلك الليل… وأصدُقك القول يا سيدي أنني أوجست خيفةً، ورأيتني، في كوخي هذا، كومةً من عصبٍ متقلصٍ راعشٍ، أتناول عصاي، فلا أكاد أُمسكها حتى تنتفضَ وتقعَ من تلقائها!

وهممت أدعو قدميَّ للنهوض، فخانتني القوى… وبحركة ذاهلة مني وقع القنديل وتدحرج إلى تحتُ… فاستشعرت رعدةً… وقلت في نفسي: أصرُخُ به فيعود، أو أعرف من هو… إلّا أنني خفت المغبّة، وأنا لا أتقاضى راتباً يساوي مغامرة، فآثرت السكوت، ولست أدري أكان بمقدور حنجرتي الصياح، لا والله!

فاصلة وموقف

عن أية أسطورة يتحدث كاتب النصّ؟ وأين تلك الكثبان؟ ومن الذي يتهادى بخطوات وئيدة؟ ومَن هو الراوي؟

أسئلة تضع القارئ مواجهة أمام حبكة لقصة قصيرة، وتدفعه إلى الانتقال لمقطع آخر قد يجد فيه أجوبة لعلامات الاستفهام التي طرحها.

مقطع ثانٍ

“وأرسلت نظري يخترق الحجبَ الدكناء في غمرات الدجى، مرافقاً ذيّاكَ المقبل بين تلال الظلام والحجارة والرمال، حتى اقترب… فراعني منه شيءٌ يحمله بكلتا يديه، ويشدّه إلى صدره (…) وفي أقصى زاوية من حيطان المدافن وقف… وصعد التلّة، وشارف القبور، وتطاول بعنقه، وأطلّ من فوقُ، كأنه يتبيّن ضالةً… وأخذ الشيء الذي بين يديه، ورفعه بتَؤدة، وأسقطه بهدوء، واستوى…

فاصلة وموقف

ما هذا البناء الرائع الذي أقمته لتسكن تحت سقفه ألفاظُك المنتقاةُ بحذر؟ وكيف استطعت أن تحرّض القارئ لمواكبة الحبكة التي هي العَمود الأساسُ لكلّ المرويّات، لا فرق إن جاءت المرويّةُ أسطورة، أو رواية، أو قصة، أو أقصوصةً.

إذن… الحبكة صارت جاهزة: المكان، وسور، ومدافن، وإنسان ما، وحركة تنقلك إلى الحدث.. إلى بداية العقدة.

لنتابع:

مقطع ثالث

واستوى… تارة يرفع بصره إلى النجوم، وطوراً يخفضه إلى الزاوية. وبعد لحظات خلتها أمداً، رأيته يرفع يمناه للعلاء، كأنه يودّع مستأذناً بالذَّهاب… وعاد على عقبيه متراجعاً، بكلّ سكينة واحترام، حتى إذا بلغ المنبسط تحت التلّة، ولّى وجهه صوب البحر قافلاً من حيث جاء… ولما صار عند موقفه هنيهة وهو آتٍ، أيقنتُ أن لا خوف منه عليّ، وقلت: لا شكّ في أنه من الزوار الذين لهم في زيارة الموتى أطوار!

فاصلة وموقف

إذن الشبح يؤدي التحية لزعيمه الخالد أنطون سعاده، يؤديها “بسكينة واحترام”، بمناسبة ذكرى ولادة سعاده الحادي من آذار:

يا لَروعة المشهد! ويا لَقبح ما فعلت أياديهم في الثامن من تموز، يومها ووريَ سعاده الثرى، ومعه ووريت بيروت أم الشرائع!

مقطع رابع

“فتنحنحتُ أُشعره بوجودي، فما تنبّه، وسعلت أُسمعه حسّي، فما تلكّأ (…)، عندها عزمت على معرفة هذا الإنسان، وما في زيارته بعد نصف الليل من أسرار، مهما لاذ بالصمت… فقفزت ظاهراً عصاي، منادياً: قف يا هذا وإلا أطلقت عليك النار!

وكأن عبارتي الهادرةَ تلك، كانت لذلك المجهول قبضتَي جبّار أمسكتُ بكتفيه وغرسته ملتفتاً نحوي صامتاً، رافعاً رأسه وصدره، ومسبلاً ذراعيه على عباءته السوداء… كأنه ينتظر دنوّي ويتحدّى إنذاري!

وعلى قاب خطوات عشر، جابهنا الشبح المنتصب بكلمات كأنها الصفعات: ما لك؟ لماذا لا تطلق النار؟ أتخالني أخافك وأنا لم أخف أهوال الظلام؟ مناي… كلّ مناي لو أُصرع هنا، وأدفنُ الآن قرب ضريحه!

وشهقت المتكلمة يا سيدي شهقة من أعماقها، هزّت كيانها، وأقعدتها على الأرض واهية لاهثة.

فاصلة وموقف

وببراعة الأديب المتمكّن، والقصاص الماهر، يبدأ “حمود” بتفكيك الحدث، فإذا نحن أمام شبح امرأة جاءت في زيارة لفتى الربيع لتحتفل بذكرى ولادته، غير آبهة بالأخطار، متمنيّة أن تموت، وتدفنَ قرب ضريحه.

ما إن ينتهي هذا المشهد الدراميّ حتى يمسكَ بيدنا الكاتب، ونقف معاً خاشعين نستمع لرواية المرأة.

مقطع خامس

“… جاءني أمسِ في المنام، وقال لي: تعالَيْ إليّ، غداً لا بعده، وإياكِ أن تنسَيْ هديةً… هدية أحبها… أنا بالانتظار على الشاطئ، فوق كتف بيروت… أرقد في حضن الخلود، بجوار أمجاد الأجيال، باسطاً يسرايَ للأبيض الرحيب، ويمنايَ للوطن الخصيب، وصدري للبنان الحبيب.

وعاهدته على المجيء… غادرت دمشق مع الشمس (…) لأمرّ بقريته الخضراء، حيث كان ميلاده في مثل هذه الأيام، وحيث امتداد ملاعب طفولته، لآتيَه بهدية… هدية يحبها. وأدركنا الليل في بيروت… ولم أشأ إرجاء الزيارة للغداة… فقد شاءها هو اليوم، لا بعده… وأنا لعهده الأمينة”.

فاصلة وموقف

وببساطة تنكشف الأمور، فإذا الزائرة هي الأمينة الأولى جاءت للاحتفال بذكرى ميلاد زوجها الزعيم أنطون سعاده، حاملة بين يديها هدية العيد، فما هي الهدية؟

المقطع الأخير

“وعدتُ أنا إلى كوخي، لأفتح عينيّ على الفجر، ولأراني واقفاً مكانها، مطلّاً من فوقُ إلى تحتُ، هاتفاً فوق الضريح: إنها الهديّة التي يحبها: ثلاث ورداتٍ، على غصن أخضر، علقت بإحدى شوكاته بطاقة كالقلب كتب عليها: لبّيكَ”!

*من كتاب يُعدّ للطبع “فاصلة وموقف” –

دراسة نقدية لكتاب “ذلك الليل الطويل” لمحمد يوسف حمّود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى