أولى

يا سادة الدولة… هذا ما اقترفته أياديكم!

 د. عدنان منصور _

ما جرى أول من أمس كشف بوضوح لا لبس فيه، مدى تفكك الدولة، وهشاشة الوحدة الوطنية التي يتغنّى بها الجميع، وشلل قضاء وترنّحه، كان نتيجة حتمية لتراكمات عقود من وضع اليد السياسية عليه، من قبل كل الذين تعاقبوا على السلطة. تراكمات تجذرت أكثر فأكثر مع وضع أسس بنيان الفساد والانطلاق به بكلّ شراسة ووقاحة، من دون مبالاة واكتراث واحترام للدستور والقوانين والقضاء. وهذا ما جرى مع مطلع التسعينات لغاية الآن، وبعيد انتهاء الحرب الأهلية.

 منذ ذلك الحين، بدأ عهد تسييس القضاء بصورة ظاهرة للعيان، من خلال تدخلات وممارسات أرباب السلطة السياسية، ونفوذهم، وضغوطهم، وزجّ أنفسهم بشكل سافر في التعيينات، والتشكيلات، والمناقلات والترفيعات، حتى أصبح ولاء وانتماء العديد في السلك القضائي، والمدني، والإداري، والدبلوماسي، والعسكري، والأمني، للعراب والمسؤول السياسي وحده، لا يستطيع الخروج عن رغباته، ومطالبه، وتوجيهاته وإنْ كان هذا متعارضاً مع روح القوانين والعدالة واستقلالية القضاء.

لو ابتعد السياسيون المتربّعون على الحكم عن التدخل في القضاء، واحترموا الدستور، ومبدأ فصل السلطات، لما كنا اليوم لنشاهد هذا الانهيار الأخلاقي، والمهني، والوظيفي في هياكل ومرافق، ومؤسسات الدولة كلها.

 هل يجرؤ أحد في لبنان أن يتبجّح ليقول إنّ رجال الحكم، والسياسيين الذين تقلّدوا مناصب رفيعة في الدولة، لم يتركوا سلطة قضائية أو مدنية أو عسكرية أو أمنية إلا وتدخلوا فيها، وكانوا لكلّ صغيرة وكبيرة، إلى حين أصبح الولاء للحكام والزعماء والسياسيين، قبل أن يكون للوطن والدولة والدستور والقانون، والشعب والمؤسّسات؟

ماذا لو رفعت الأيادي السياسية لحكام البلد، وتوقفوا عن تدخلاتهم المفضوحة في ملفات الدولة الحساسة، لا سيما الملفات القضائية والأمنية، لما كنا اليوم نعيش بمرارة الحذر وحالة التشكيك في كلّ شيء، ونحن نشاهد بأمّ العين تفكك وطن، وانهيار دولة، وتحلل مؤسسات.

 ماذا لو رفعت الأيادي السياسية منذ البداية، عن القضاء ليأخذ طريقه السليم بعيداً عن التأثير، أو الضغط، أو الخوف، أو الابتزاز، أو التهديد! هل كان المسؤولون السياسيون والمواطنون، ليختلفوا وينقسموا حول صدقية وأداء هذا القاضي أو ذاك، أو حول عمل وتصرف مريب لمسؤول ما، حتى تتحرك وتثور الغرائز السياسية والطائفية، والمصالح الشخصية للبعض، وتدبّ» النخوة» في نفوسهم، ليحيطوا القضاء بسور من «الخطوط الحمر»، حيث أصبح العدل والعدالة وجهة نظر شخصية!

إنّ المسؤولية واللوم لا يقعان فقط على مَن يريد العدالة والحكم لنفسه، وإنما أيضاً يقعان على عاتق مَن تعوّد على جعل الأحكام القضائية تصبّ في صالح السياسة والسياسيين، وتخدم مصالحهم الذاتية وأهدافهم الشخصية.

ولو كان هناك من شفافية، وابتعاد كلي عن تدخل السياسيين في شؤون القضاء، لما كنا لنشهد الفلتان الأمني الذي يحصل على الأرض من آن إلى آخر.

 إنّ الفلتان الأمني الخطير، الذي جرى أول من أمس، وما أسفر عنه من مجزرة مقززة ارتكبها قناصون قتلة، أودت بحياة عدد من المواطنين، وجرح العشرات منهم، مجزرة كادت أن تفجّر وطناً بأكمله، وتزجّ شعبه في أتون حرب أهلية مدمّرة، لم ينسَ بعد نتائج الحرب الأهلية القذرة التي اندلعت قبل خمسة وأربعين عاماً.

لو علم القتلة وكلّ الخارجين عن القانون، والمتمرّدين عليه، والفاسدين، والمفسدين، وقطاع الطرق، أنّ القضاء العادل غير المسيّس، سينتظرهم ليكون لهم بالمرصاد، ويلاحقهم حتى النهاية… وأن ليس من يد سياسية سوف تحميهم، وتغطيهم، وتدافع عنهم، وتسوّرهم بـ «خطوط حمر»، لما فعلوا ما فعلوه، ولما تجرأ القتلة يوم الخميس الماضي على ارتكاب المجزرة الرهيبة التي ارتكبوها.

لا يمكن لأيّ بلد كان، أن يحفظ وحدة شعبه ونسيجه الوطني، وعيشه الواحد، من دون قضاء منزّه عن كلّ تدخل أو انحياز لجهة ما. قضاء مستقلّ عادل لا يكون تحت رحمة السياسيين، أو ينتظر تقييم أداء قاض من قبل دولة خارجية لا تنفك عن التدخل السافر كلّ يوم في شؤون البلد الداخلية، وتتمادى في توجيهاتها وإملاءاتها عليه!

 إنه القضاء يا سادة الوطن! ارفعوا أياديكم السياسية عنه، ووفروا له الاستقلالية، والحصانة الكاملة، وأبعدوا عنه نفوذكم وسلطتكم، ومصالحكم، كي يطبّق القانون نصاً وروحاً، ويؤدي دوره في خدمة العدالة والإنسان. عندها لن نرى مشككاً أو معترضاً، أو متحفظاً، أو نافذاً، أو متدخلاً، أو فاسداً، أو موجّهاً، أو مؤثراً أو مستفيداً يعبث بالقضاء ومؤسسات الدولة، ومصالح الناس.

إنّ فشل الدولة، والانهيار المتسارع في وزاراتها ومفاصلها، ومؤسّساتها، ومرافقها، وأجهزتها، لم يكن ليحصل، لولا تكبيل القضاء من قبل المسؤولين السياسيين، ومنعه من أداء دوره القانوني الحازم والحاسم، وتنقيته من الداخل، ليكون فعلاً لا قولاً ميزان الحق والحقيقة والعدالة، وصوناً للإنسان وحريته وكرامته.

لحكام لبنان ومسؤوليه نقول بصوت عال: توقفوا عن تقزيم القضاء وشلّ دوره، فلا إصلاح، ولا تنمية، ولا أمن، ولا أمان، ولا مستقبل لدولة عندما يكون القضاء مصادراً، ومهيمناً عليه من قبل زمرة من المغامرين المقامرين بالوطن والشعب، والمتعطشين دوماً للسلطة والمال والنفوذ.

حرّروا القضاء من السياسة حتى تعود للدولة قوتها وهيبتها… حرّروا القضاء من السياسيين حتى يضمن المواطن حقه وكرامته بعيداً عن الغبن والظلم… حرّروا القضاء من السياسيين حتى لا تنصّب السفارات ودولها نفسها «المندوب السامي» والحكم في تقييم عمل القضاة وإعطائهم براءة ذمة، مع تنويه بحقهم… حرّروا القضاء من هيمنة السياسيين لملاحقة ومحاكمة مصاصي دماء الشعب، وسارقي ماله وجنى عمره… حرّروا القضاء من أهواء السياسيين وميولهم، كي يطبق القوانين المرعية، حتى يُحاكم العميل والمتآمر مع العدو على الوطن والشعب ويصدر بحقه العقاب والحكم العادل، حتى لا تبقى الخيانة وجهة نظر، والوطنية مسألة قيد الدرس، والتمييز بين الشقيق والعدو حمّال أوجه يخضع للاجتهاد…!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى