ثقافة المقاومة وتغيير العالم*
} ناصر قنديل
يشكل كلام وزير الخارجية الأميركية قبل أقلّ من شهرين في 27-10-2022، بأن النظام الذي ولد بعد الحرب الباردة لم يعد قائماً، أول اعتراف علني أميركي مباشر بالتغييرات الدولي العميقة، عندما تحدث في مؤتمر واشنطن لشؤون الأمن الاستراتيجي الذي دعت إليه مجموعات بحث ودراسات وقال لقد انتهى النظام الذي ولد بعد نهاية الحرب الباردة والتنافس القائم محوره تحديد هوية النظام العالمي الجديد، معترفاً بتراجع النفوذ الأميركي مع سقوط الأحادية الغربية، ايّ سقوط نظام ما بعد نهاية الحرب الباردة، وبصعود قوى دولية جديد تخوض المنافسة على نظام عالمي جديد، مؤكداً مضمون ما قاله الإمام السيد علي الخامنئي في تشخيصه لطبيعة التغييرات التي يشهدها العالم، مع فارق إشارة الإمام الخامنئي إلى تنامي ظاهرة المقاومة وثقافتها كعامل من عوامل هذه التغييرات.
المفارقة هي أنه غالباً ما يرد ذكر المقاومة التي شهدتها منطقتنا بصفتها أحد عوامل صناعة المشهد العالمي الجديد، وفي الغالب الأعمّ توضع في آخر اللائحة، نظراً لتفاوت الإمكانات والأحجام بينها وبين العنصرين الهامين الآخرين المتمثلين سواء بصعود قوى دولية جديدة كروسيا والصين نقلت الثقل العالمي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من الغرب الى الشرق، او تراجع النفوذ الأميركي، وفي هذا ظلم كبير وإجحاف في تقدير حجم مساهمة المقاومة وإنجازاتها وثقافتها في صناعة معادلة دولية جديدة.
من المفيد العودة إلى رؤية المشهد الدولي قبل صعود المقاومة وحضورها الوازن، خصوصاً قبل أن تنهض روسيا والصين إلى المنافسة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتحديداً خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2011، أيّ بين موعد تحرير جنوب لبنان بقوة حضور المقاومة وموعد انطلاق الحرب على سورية وتسجيل أول استخدام من جانب روسيا والصين لحق النقض في مجلس الأمن الدولي، منذ سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وصعود القطبية الأميركية الأحادية عام 1990.
في 4 تشرين الأول 2011 استخدمت روسيا والصين حق النقض لمنع صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي ضدّ سورية، وكرّرت ذلك في 4 شباط 2012 بإسقاط مشروع قرار يفتح الباب لتدخل عسكري شبيه بالذي شهدته ليبيا تحت شعار دعم موقف جامعة الدول العربية وخطتها، وجاء ذلك بعدما سجل المشهد الدولي هيمنة أميركية غربية كاملة على قرارات مجلس الأمن التي شكلت الغطاء للتدخلات العسكرية العدوانية التي شهدتها ليبيا ومن قبلها قرارات وفرت الغطاء اللاحق للإحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق وشرعنته، ومثلها القرارات التي فرضت العقوبات الأممية على إيران التي كبّلتها وقيّدت اقتصادها لم ترفع إلا بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ومثلها القرار 1559 الذي دعا للانسحاب السوري من لبنان ونزع سلاح المقاومة، وفي تموز 2006 عندما شنّ جيش الاحتلال حربه على لبنان معلناً عزمه على سحق المقاومة، ووقفت وزيرة خارجية أميركا غونداليزا رايس تعلن من بيروت عن انطلاق مخاض شرق أوسط جديد من رحم هذه الحرب، كانت قمة بطرسبورغ للثمانية الكبار تنعقد في هذه المدينة الروسية وخرج بيان القمة يدعو الى تفهّم ما وصفه بـ «الحق المشروع لإسرائيل بالدفاع عن النفس»، مكتفياً بدعوتها إلى أن يكون استخدامها للقوة متوازناً.
السؤال الذي تطرحه هذه المواقف ليس حول إدراك او عدم إدراك ان هذه المواقف والقرارات كانت مجرد تغطية من الموقع الذي يمثله مجلس الأمن للعدوانية الأميركية وتشريعاً لخطط الهيمنة على العالم، فكلّ ما صدر عن موسكو وبكين بعد ذلك يؤكد حجم إدراك الخطر من جهة، والقراءة الروسية والصينية لموازين القوى من جهة موازية، بصورة جعلت المواجهة في تلك الظروف وفق القراءتين الروسية والصينية غير متناسبة مع موازين القوى كما كانت تقرأها، لذلك فالسؤال الحقيقي هو حول طبيعة المتغيّرات التي جعلت القراءة الروسية الصينية تتغيّر؟
الذي تغيّر هو ما قدّمته قوى المقاومة ومعها دولتان حاضنتان لها هما إيران وسورية، بصورة تبدو معاكسة لقراءة موازين القوى بالعيون الروسية والصينية، فقد ثبت بالوقائع التي حملتها الأحداث أن هناك إمكانية لمواجهة سياسة العقوبات القاسية وتحويلها من تحد الى فرصة وفق ما تقول التجربة الإيرانية التي بنت خطط التنمية والتطور التكنولوجي في ظل العقوبات، وكان برنامجها النووي وتطوره علامة فارقة على هذا الصعيد، وعندما بدأت الحرب في أوكرانيا مطلع هذا العام وفرضت العقوبات على روسيا، قال مسؤولون روس منهم الرئيس فلاديمير بوتين انّ التجربة الإيرانية كانت حاضرة في المواجهة الروسية للعقوبات، كما ثبت بالوقائع انّ المقاومة التي حظيت الحرب عليها بالتغطية الدولية من قمة بطرسبورغ قد خرجت منتصرة عام 2006 وأنّ الدعم الأميركي والغربي لـ «إسرائيل» وقوتها التدميرية لم يكونا أسباباً كافية لتحقيق الإنتصار أمام الإرادة التي حملتها المقاومة وحققت عبرها انتصارها التاريخي، مقدمة لـ صواريخ الكورنيت الروسية سمعة تجارية مرموقة عبر الدور الذي أدّته خلال الحرب.
يمكن القول بثقة إنّ الحرب على سورية شكلت المحطة الفاصلة في تبلور قراءة روسية ثم صينية بأنّ موازين القوى الدولية ليست بالسوء الذي تقوله القراءتان التقليديتان للبلدين، فقد ظهر أنّ سورية بدعم من قوى المقاومة وإيران قد حققت صموداً استثنائياً بوجه آلة حرب دولية، قدّمتها استخبارات عشرات الدول الغربية وأموال الدول العربية بلغت مئات مليارات الدولارات، وقامت خلالها جماعات التطرف والإرهاب بشحن أكثر من ربع مليون مقاتل الى الأراضي السورية برعاية غربية عربية، مع انخراط مباشر من ثاني أقوى جيوش حلف الناتو الذي يمثله الجيش التركي في هذه الحرب، وآلة إعلامية ودبلوماسية عملاقة على مساحة العالم والمنطقة ضمّت مئات الفضائيات والصحف الناطقة بجميع لغات العالم وآلاف المواقع الإلكترونية وآلاف الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يخفي الخبراء الروس حقيقة أنّ قرار ضمّ شبه جزيرة القرم رداً على الانقلاب الذي شهدته أوكرانيا عام 2014 تمّ على خلفية قراءة ما يجري في سورية.
تقول الوقائع أيضاً أنّ قرار موسكو بتموضع قواتها في سورية عام 2015 لم يكن بعيداً عن القراءة التي قدمتها المواجهة التي خاضتها قوى المقاومة وفي قلبها الدولتان السورية والإيرانية لإسقاط أهداف مشروع الحرب على سورية، خصوصاً بعد المواجهة التي بدأتها قوى المقاومة بقيادة الجنرال الشهيد القائد قاسم سليماني منذ صيف العام 2014 والتي كسرت موجة صعود داعش في العراق خصوصاً، بعدما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إنّ قتال داعش سوف يستمرّ لعشرات السنوات وإنّ اللقاءات التي جمعت القائد سليماني بالقيادة الروسية وعلى رأسها الرئيس بوتين لعبت دوراً حاسماً في قرار الذهاب الى سورية على خلفية القراءة التي قدّمها الجنرال سليماني لفرص تحقيق النصر.
إذا كان العقد الثالث من القرن الحالي الممتدّ من العام 2020 هو عقد الصعود الروسي والصيني، وعقد الأفول والتراجع الأميركيين، فإنّ العقد الممتدّ بين العامين 2000 و2010 هو عقد القتال المنفرد لقوى المقاومة بوجه مشروع الهيمنة الأميركية، والعقد الممتدّ بين العامين 2010 و2020 هو عقد التحوّل في مسارَي الهيمنة الأميركية والتجرّؤ الروسي الصيني على خوض غمار المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية.
إذا نظرنا نحو تراجع النفوذ الأميركي، سنجد أنّ نقطة الانطلاق كانت في الاعتراف الأميركي بفشل الحرب على العراق كما وثقته نصوص تقرير بايكر هاملتون الذي صاغه زعماء ونواب ومفكرو الحزبين الجمهوري والديمقراطي خريف عام 2006، وتحدث عن فشل كامل في الحرب معيداً أسباب الفشل الى تضخيم الرهان على القوة والاستخفاف بقدرات القوى المواجهة وتغيّر قواعد الحرب معها خصوصاً إيران وسورية والمقاومة، كما ورد في التقرير، وكذلك في الاعتراف الأميركي بفشل حرب تموز عام 2006 الذي وصفته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون عام 2010 عند حديثها في 10 آذار 2010 أمام مؤتمر الآيباك في واشنطن، عن مستقبل قاتم ينتظر «إسرائيل» والسياسات الأميركية، بقولها انّ زمن الحرب الخاطفة والنصر الحاسم أصبح شيئاً من الماضي مع حرب الصواريخ التي كانت حرب 2006 نموذجاً مصغراً لها، وجاءت حروب غزة لتؤكدها كحقيقة لا مناص من الاعتراف بها، وجاء كلام الباحثين الأميركيين عن تقدير الموقف بعد تطورات حرب اليمن وخصوصاً بعد استهداف «أرامكو» كما نقله الكاتب توماس فريدمان في مقالته في نيويورك تايمز في 9-10-2019، يؤكد انّ عصر المقاومة غيّر معادلات وقانون الحرب، بتشبيه عملية «أرامكو» بعملية «بيرل هابربر» التي استهدفت السواحل الأميركية من الكاميكاز الياباني وانتهت بدخول أميركا الحرب العالمية الثانية، وقوله «لقد شهدنا بيرل هاربر الشرق الأوسط، ولم يكن هذا العمل الجريء ليحدث بطريقة كهذه لأنه أدّى إلى حالة من الهلع في العواصم العربية وإسرائيل وأدّى إلى ارتفاع صوت تسمعه دائما عندما تخطئ الطريق «إعادة حساب، إعادة حساب، إعادة حساب«. فكل «دولة» في الشرق الأوسط تقوم بإعادة النظر في استراتيجيتها الأمنية بدءاً من إسرائيل»، وصولاً للقول «لا يعرف كم عدد الصواريخ التي يملكها حزب الله، ولو كان لديه 150 صاروخاً دقيقاً فقط، فبإمكانه ضرب كلّ المنشآت الحيوية الإسرائيلية، إذا كان لديه 150 فقط، فيمكنه ضرب جميع الأهداف الاقتصادية والعسكرية المهمة في إسرائيل، من موانئ ومطارات ومحطات الطاقة والمفاعل النووي ومصنع إنتل لشرائح الكمبيوتر وشبكتها من شركات البرمجيات والتكنولوجيا ويمكنه شل إسرائيل». ولعله ذا مغزى ان يختتم فريدمان مقالته بالقول «كان حمّامًا بارداً تلقاه السعوديون الذين اتصلوا بواشنطن لمناقشة ما تخطط له الولايات المتحدة من ردّ إستراتيجي، ليكتشفوا أنّ الرئيس ترامب كان مشغولاً بالبحث عن رقم الهاتف النقال للرئيس الإيراني حسن روحاني».
عندما يتحدث الخبراء الأميركيون بغير لغة الدعاية ويتحدث المسؤولون بغير الخطاب الإعلامي التعبوي يعترفون انّ إيران معضلة كبرى لم تنفع بترويضها العقوبات ولا فرصة لوقف صعودها بالتفكير بالخيار العسكري، فيتذكرون ساعة أرسل الرئيس دونالد ترامب طائرة التجسّس العملاقة فوق إيران وأسقطها صاروخ دفاع جوي إيراني الصنع، واختار ترامب بنصيحة من الاستخبارات والبنتاغون عدم الردّ والتذرّع بعدم سقوط دماء للتراجع، وجوهر الموقف أنّ البديل الوحيد الممكن هو ما يسمّونه بالاحتواء تارة وبالانخراط تارة أخرى، وعنوانه البحث عن التسويات الممكنة معها، على قاعدة التسليم بأنّ ثمة ما لا يؤمَل بالتوصل إلى تسوية حوله مع إيران، خصوصاً ما يتصل بموقفها من كيان الاحتلال والتزامها بدعم قوى المقاومة، وهي البنود التي تسمّيها واشنطن بالسياسات الإقليمية لإيران او نفوذ إيران الإقليمي.
جاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما تضمّنه كلام الرئيس الأميركي جو بايدن عن تفسير أسبابه ليقدم اعترافاً مثالياً بنهاية زمن قدرة القوة العسكرية الأميركية على صناعة السياسة وفرض الهيمنة، وقوله المعبّر، في 20-1-2022 عن لا جدوى البقاء العسكري هناك «لو بقينا عشرين عاماً أخرى فإنّ شيئاً لن يتغيّر إلا زيادة الخسائر البشرية والمالية»، وقيمة الاعتراف بالفشل في أفغانستان بهذه اللهجة أنها تأتي حيث ليست المواجهة مع الدول العظمى بل مع مقاومة الشعب الأفغاني، وهذا الاعتراف يُضاف الى التسليم الأميركي الموثق بما تسمّيه مراكز الدراسات الأميركية دور اللاعبين غير الحكوميين في الإشارة خصوصاً إلى قوى المقاومة، ودور هذه المقاومة في فرض التراجع على النفوذ الأميركي.
في الخلاصة أدّت المقاومة بقواها ودولها دور المحفز الرئيسي في صناعة التحوّلات الجديدة التي يشهدها العالم ويتهيّأ للمزيد منها، سواء بفرض التراجع على النفوذ الأميركي وإسقاط حروب الهيمنة، أو بمنح الأمل للقوى الكبرى كروسيا والصين بإمكانية خوض المواجهة مع مشروع الهيمنة والظفر بها، يبقى أنّ التحدي الراهن ونحن في قلب المتغيّرات الكبرى، هو في قدرة قوى المقاومة على امتلاك رؤية واضحة لكيفية انتزاع مكانة تليق بهذا الدور في أيّ نظام عالمي جديد ستحمله هذه المتغيّرات.
*مداخلة في مؤتمر ملامح النظام العالمي الجديد الذي نظمته المستشارية الثقافية الإيرانية في بيروت