أولى

المفتي أحمد بدر الدين حسون

 طارق الأحمد*

حين التقيته في المرة الأولى، سارع هو بتحيتي فقال تحيا سورية… فقلت له تحيا سورية… وعرفت بأنه متابع جيد لأخبار الحزب ومواقفه وفكره، كما أنه يتناغم فكرياً بشكل عام مع الكثير مما أتى به فكر سعاده، وحين زرته في بيته بعد ذلك في عام 2012 تناقشنا ملياً وعميقاً بموضوع العلمانية في الدولة، حتى قال إنه مفتٍ لكلّ الطوائف والمذاهب وللمسيحيين والمحمديين، كما أنه يعتقد بأنّ العلمانية هي طريق إلى احترام الدين وتنزيهه عن التعصّب والفئوية.

لقد مثل ذلك بالنسبة لي جملة من المواقف المتقدّمة المغايرة كلياً لما اصطلحنا عليه في المفهوم العام بأنها سمات رجل الدين التقليدي أو الشيخ كما عهدنا تسميته.

توالت بعد ذلك عديد اللقاءات حيث اشتركنا سوياً في مؤتمرات وندوات فكرية عدة طرحت فيها مختلف القضايا التي تهمّ مجتمعنا كما تهمّ مصير الأمة كلها، وحتى أنني اقترحت عليه ذات مرة تجديد الخطاب الفريد الذي ينطلق به من الشام وما تمثله من فكر لا بدّ أن يعالج التطرف الذي انتشر في العالم كله تحت عناوين دينية، ثم تكثف في هجمة غير مسبوقة محاولة تفتيت الشام نفسها وتغيير هويتها، وإرهابها وترويع أهلها، لكنها قد استطاعت أن تقاومه من خلال حجم المناعة الطبيعية البنيوية التي يتمتع بها المجتمع، وقد مثلها إلى حدّ كبير خطاب المفتي حسون، بالتالي فإنها تحمل الترياق لأمراض العالم كله التي ينتشر فيها التطرف ويعيث في الأرض خراباً وإرهاباً.

اليوم وبعد انتشار كثيف لمواقف متعددة ومتباينة حول انتهاء عمل سماحة المفتي أحمد بدر الدين حسون وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي ومعظمها محب ومخلص لوطنه ولكن يدخل في الكثير منها سموم الأقلام المتربّصة بالوطن من جهات لا تزال تريد ضربه وتفتيته أينما استطاعت، فقد وجدت من الواجب إيضاح الأمر للرأي العام وفق ما أعرفه وما سمعته منه شخصياً حيث أنني زرته أخيراً للاطمئنان عليه وحول رأيي في الموضوع بشكل عام كما يلي:

إنّ تناول هذا الشأن العميق جداً هو تناول صعب وشائك ولا يصحّ تأويله على المنحى الصراعي الذي ظهر في الأخبار والمقالات ووسائل التواصل الاجتماعي على رغم كلمات الوفاء التي عبّر عنها الكثيرون لما لمسوه من فكر لديه حوامل عصرية ونهضوية كانت تمثل النقيض الطبيعي للفكر الظلامي والتدميري الذي أراد نهش جسد الوطن. لأنّ العلاقة ما بين الدولة ورجال الدين بما يمثلونه سواء كانوا داخل الحدود أو خارج الحدود هي علاقة خطيرة وقد يؤثر من يقيم خارج الحدود من شيوخ وجهات دينية أكثر مما يؤثر من هم في الداخل، وكلنا يعرف الأمثلة عن فتاوى القرضاوي أو لقاءات العرعور التلفزيونية الشهيرة مع بداية الحرب على سورية، والتي كانت بمثابة قيادة عمليات حربية فتنوية باسم الدين وغايتها محاولة إشعال القتال في كلّ شارع وقرية ومكتب وجامعة ومدرسة، أيّ تهيئة البيئة إعلامياً لكي يقتل ما أمكن كلّ شخص الآخر بجواره، ثم فصل المتحدات على أسس طائفية ومذهبية مقيتة، لكي تشتعل الحرب المذهبية وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير لكن ليس بشكل شامل.

من هنا تبرز الحاجة إلى تحصين الوطن من هذه الهزات المركبة، وعناصر التلاعب بالمجتمع، بالدين عبر الفتاوى السائبة، وهذه الحالة تعتبر واحدة من أكبر الاستنتاجات والخلاصات التي يجب أن نكون قد خلصنا إليها بنتيجة هذه الحرب الطويلة، ومن هنا فمن الحصيف النظر إلى خطوة تحويل حالة الفتوى من الشكل الفردي الذي يمثله شخص ما، كائناً من كان، وله روح وجسد، ونحن نتحدث هنا عن مصلحة الوطن والأمة، لتصبح الحالة كلها لدى مؤسّسة شاملة جامعة تضمّ العديد من الشخصيات التي نفترض أنها ستضمّ من يتمّ اختيارهم وفق معايير علمية وعملية مدروسة، وتناسب المجتمع بكلّ تنوّعاته الفكرية، ثم يكون لها نظاماً داخلياً ناظماً لعملها ومؤسساً لتطورها وإنتاجها الفكري الذي يفترض أن يواكب العصر والحداثة ويحافظ في الوقت نفسه على احترام الأديان وتنزيهها عن العبث بها لمصالح الناتو مثلاً كما فعل القرضاوي.

وبالمناسبة فقد مثل المفتي حسون هذه الغايات والأفكار بعمله وهذا ما كنا نناقشه، ثم كان لي حوار آخر مع أحد أبرز الدكاترة الأعضاء الجدد في مؤسسة المجلس العلمي الفقهي الجديد الذي حلّ محلّ دار الإفتاء، وذلك على قناة «الإخبارية» السورية وأمام الجمهور، وفيها شرحت له وجهة نظر الحزب السوري القومي الاجتماعي بفكر مؤسسه أنطون سعاده وبخاصة بما جاء في كتابه «الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية»، وكان ذلك رداً على طروحات غير صحيحة ومغلوطة تنتشر كدعايات مغالطة حول حزبنا، مما دعاه إلى التوقف جدياً مع هذا الكلام، ومن ثم أقرّ بأنه كان يحمل أفكاراً مغلوطة عن فكر حزبنا ومن ثم وعدني بأن يقرأ الكتب والأفكار وبخاصة هذا الكتاب، وهذا بتقديري شيء جيد لأننا لسنا في حالة صراع وتصادم مع شعبنا، بل نحن في الصراع من أجل شعبنا.

إنّ الفرق ما بين المفتي أحمد بدر الدين حسون وغيره، قد يتمثل بالريادية وجرأة الأفكار وحب الاطلاع وغيرها من المزايا الكثيرة في الرجل… لكن هذا الأمر هو ما يمكن أن ينتقل إلى الكثيرين من أعضاء المجلس الفقهي الجديد شريطة أن نخرج من حالة التشرذم والاتهامات المتبادلة واليأس ونذهب إلى الحوار الهادئ والمفتوح بين بعضنا البعض تحت قاعدة أنّ «مصلحة سورية هي فوق كل مصلحة»، بالتالي فمن المصلحة الجدية النظر إلى تحويل مؤسسة الإفتاء من الشكل الفردي إلى الشكل المؤسساتي ليصبح جسم الإفتاء كياناً اعتبارياً لا فردياً فيناقش ما يعرض عليه ثم يأخذ قراراته وفق نظام مؤسسته، وهذه الخطوة وفق وجهة نظري المتواضعة تشكل حالة غير مسبوقة لا جغرافياً، أيّ أنها فريدة بين الدول في المنطقة، ولا تاريخياً وتشكل بحق حدثاً تاريخياً إذا تطوّرت وأدخلت المنهج العلمي إليها… ويمكن أن تشكل مرجعاً حداثوياً إذا ما أحسن العمل بموجبها لترفع الحالة الريادية للفكر السوري وتجربته من التطرف والإرهاب، إلى مصاف العالمية التي يحتاجها الجميع لأنّ العالم كله مهدّد بنفس الخطر الذي هدّد الكيان الوجودي في سورية.

وأخيراً فإنني ها هنا أعطي رأياً قابلاً وراغباً في النقاش الناقد قبل المؤيد على قاعدة الأهمية بخروجنا جميعاً من حالة الاتهامات والأفكار المتناقضة، إلى الفهم المشترك لما هو نافع للأمة لا للفرد، بالتالي يجب أيضاً الخروج من شخصنة الحدث وتناوله على أنه انتصار أو انكسار لشخص كائناً من كان، إلى اعتبار انتصار الدولة والمجتمع والأمة في معركة الحداثة والتحصين وتلك هي معركتنا جميعاً وكلنا معنيون بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*عميد الاقتصاد في الحزب السوري القومي الاجتماعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى