الوطن

الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان وتأثيرها على الديون المصرفية…

} أحمد قاسم

 القوة القاهرة والظروف الاستثنائية والكوارث والحروب والجوائح كلها أسباب تؤدي الى تعثر القروض المصرفية، هذه الظروف الاستثانية تأتي بعد نشوء عقد القرض وهي خارجة عن إرادة طرفيه وتحول دون تنفيذه، مثال على ذلك ما يحصل الآن في لبنان نتيجة لجائحة كورونا والحرب السورية والحصار المفروض على لبنان وما نتج عنه من انخفاض كبير في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي بحيث أصبح المقترض غير قادر على الوفاء بالتزاماته نتيجة لتدني مستوى دخله، ونتيجة لوجود تعهّدات او عقود كثيرة بالدولار الأميركي وعدم التزام أكثر المدينين بالتسعيرة الرسمية لمصرف لبنان، وكذلك لوجود عدة تسعيرات صادرة عن مصرف لبنان للدولار بحيث أصبحت هناك حيرة بأيّ سعر سيتمّ تنفيذ تلك العقود.

ولكن السؤال الذي يطرح: هل نستطيع تعديل القروض المصرفية في ظلّ الظروف الاستثنائية؟

 لم يشر المشرع اللبناني بخلاف بعض التشريعات العربية والأوروبية الى إمكانية تعديل العقد استناداً الى الظروف الاستثنائية الناتجة عن الحروب والكوارث والجوائح، حيث نجد انّ تلك التشريعات تجاوبت مع الحالة الطارئة وأدخلت ما يُعرف بنظرية الظروف الاستثنائية، ونذكر منها المشرع المصري الذي نص في المادة 147 على انه: «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها ان تنفيذ الالتزام التعاقدي وان لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدّده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ان يردّ الالتزام المرهق الى الحدّ المعقول. ويقع باطلاً كلّ اتفاق على خلاف ذلك». كذلك فعلت القوانين الإيطالية واليونانية والبرتغالية… بالاستناد الى انّ التعاقد بُني على ظروف معينة كانت متوقعة او سائدة من المتعاقد الآخر، فإذا زال الأساس الذي بُني عليه العقد وجب إنهاءه أو إعادة النظر فيه. أما المشرع الفرنسي فلم يصدر تشريعاً يكرّس نظرية الظروف الطارئة.

 ففكرة الظروف الطارئة التي كرّست على قاعدة انّ الالتزام الذي يصبح مرهقاً للمدين بحيث يهدّده بخسارة فادحة أمر يرفضه العقل والإنصاف والعدل، لأنّ حدوث مثل هذه التقلبات والتي تحدث خللاً كبيراً ومرهقاً بالموجبات تتطلب تدخلاً من القاضي بناء لطلب المغلوب على أمره لإنقاذه من هذا المأزق الهدام لاقتصادياته إما بتعديل الموجبات بصورة يُعاد اليها التوازن وإما يحلّ العقد بصورة نهائية.

 أما عن موقف الفقه في لبنان فهو مجمع على الأخذ بنظرية الظروف الطارئة الاستثنائية لإجراء رقابة على العقد من قبل القاضي بغية إعادة التوازن الى العقد او حله وذلك بالاستناد الى المادة 221 من قانون الموجبات والعقود اللبناني التي تنص على ما يلي: «ان العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين ويجب ان تفهم وتفسر وتنفذ وفاقاً لحسن النية والانصاف والعرف». اما الاجتهاد اللبناني وعبر مجلس شورى الدولة اعتمد نظرية الظروف الطارئة في العقود الادارية باعتبار ان هذه العقود تؤدي خدمة عامة، واشترط ان يكون العقد قد نفذ وان يقع حدث مفاجئ لم يكن احد المتعاقدين يتوقعه ولم يكن باستطاعة الرجل العادي توقعه ويكون من شأنه ان يخلّ بالتوازن الاقتصادي للعقد، وان يكون هذا الخلل قد بلغ حداً جسيماً يصبح معه تنفيذ المدعي لالتزاماته مرهقاً ان لم يكن مستحيلاً. بينما الاجتهاد في المحاكم المدنية بقي متذبذبا» بسبب عدم وجود نص تشريعي يجيز للقاضي التدخل في تعديل مضمون العقود.

 من هنا، نرى انّ المحاكم وفي ظلّ الظروف الاستثنائية التي نمرّ بها وغياب النص التشريعي ان تعمد الى مبادئ العدل والانصاف في فهم العقود وتفسيرها من اجل حماية المقترض وهو الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية، وكذلك يمكنها الاستناد الى نص المادة 115 من قانون الموجبات والعقود للتخفيف عن المقترضين تنص على انه: «للقاضي ان ينظر بعين الاعتبار الى حالة المديون اذا كان حسن النية فيمنحه مع الاحتياط الشديد مهلا معتدلة لإيفاء الموجب ويأمر بتوقيف ما لم يكن ثمة نص قانوني مخالف». ولا يسعنا الا ان نتقدّم باقتراح من أجل السماح للقاضي للتدخل وتعديل بنون العقد بما يتناسب مع الوضع وقت توقيع العقد مراعاة لمبدأ حسن النية والانصاف والعدل واستثناء» على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين.

مصير القروض بالدولار…؟

 والسؤال الآخر الذي يمكن طرحه كذلك: ما هو مصير القروض الممنوحة بالدولار الأميركي؟ وايّ سعر يعتمد في السداد؟

 الجواب على هذين السؤالين موجود في التعميم رقم 568 الصادر عن مصرف لبنان والذي فرّق بين قروض التجزئة (القروض السكنية، القروض الاستهلاكية، قروض السيارات، التعليم، بطاقات الائتمان…) والتي تمسّ الشريحة الأكبر من أصحاب محدودي الدخل وهم الطرف الاكثر تأثراً بهذه الأزمة، وبين القروض التجارية والتي أبقى فيها على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، كذلك فإنه فرّق بين المقيمين وبين غير المقيمين والذين يحصلون على مدخول عالٍ بالعملات الأجنبية أبقى على دفعاتهم بالدولار. اذ نصت المادة الأولى منه على ما يلي: «على المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان قبول تسديد العملاء الأقساط او الدفعات المستحقة الناتجة عن قروض التجزئة كافة موضوع هذه المادة، بما فيها القروض الشخصية، وذلك بالليرة اللبنانية وعلى أساس السعر المحدد في تعاملات مصرف لبنان مع المصارف (حالياً بقيمة وسطية تبلغ 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الواحد) وذلك بشرط:

أ- ان لا يكون العميل من غير المقيمين وفقاً للتعريف الوارد في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان.

ب- ان لا يكون للعميل حساب بهذه العملة الأجنبية لدى المصرف المعني يمكن استعماله لتسديد هذه الأقساط والدفعات.

تبقى سائر التسهيلات والقروض سيما التجارية منها خاضعة لشروط عقد القرض او عقد التسهيلات الموقع بين المصرف او المؤسسة المالية والعميل سيما لجهة الالتزام بالتسديد بعملة القرض».

 اما الاجتهاد اللبناني فهو منقسم بين مؤيد وبين معارض في ظل رفض أغلبية المصارف تطبيق مضمون هذا التعميم ولجوء المقترضين الى العرض والإيداع لدى كاتب العدل على اساس السعر الرسمي (1507.5)، ونحن نقصد الإيداع الفعلي للقروض المستحقة بالدولار الأميركي، اما القروض غير المستحقة فالاجتهاد متفق على عدم جواز تسديدها قبل مواعيد استحقاقها. وفي قرار رقم 9/21 تاريخ 13/4/2021 صادر عن رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكي بتاريخ 28/10/2020، رد العرض والغيداع وكلف الجهة المعترضة مراجعة محكمة الموضوع خلال مهلة عشرين يوماً من تاريخ تبلغها هذا القرار للبتّ بمعدل سعر صرف الدولار الواجب اعتماده، لانّ احتساب سعر الدولار يتعلق بأساس النزاع كونه يطال أصل الحق وكيفية احتسابه ويؤثر على مقدار الموجب، وايّ وجهة سيتمّ تبنيها في احتساب سعر الصرف من شأنها ان تغيّر في مقدار الدين زيادة او نقصاناً، الأمر المحظر على رئيس دائرة التنفيذ التصدي له. هذا العرض تناولته المادة 822 و 823 من قانون أصول المحاكمات المدنية.

لذلك نرى انّ القروض السكنية والشخصية وقروض السيارات والتعليم وبطاقات الائتمان ينطبق عليها التعميم رقم 568 ووجب على المصارف تنفيذه وفي حال رفضت ذلك على المقترض اللجوء الى القضاء لتنفيذه على أساس السعر الرسمي 1507.5.

ولكن ماذا عن المهل القضائية والأقساط لدى المصارف؟

 في ظلّ الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة بعد تفشي وباء كورونا وتوقف البلاد عن العمل وفقاً لخطة الطوارئ الموضوعة من قبل الدولة، تقدمت الحكومة من المجلس النيابي بطلب تعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية وذلك بعد ظهور اول حالة كورونا في البلاد بتاريخ 20/2/2020 وقد أقرّ مجلس النواب التمديد بموجب القانون رقم 160، المتعلق بتمديد المهل القانونية والقضائية والعقدية، الصادر في 8/5/2020، والمنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 14/5/2020، العدد 20. اما عن موضوع الأقساط فقد تمّ تعليقها كذلك حفاظاً على مصلحة المقترضين وصوناً لهم ولممتلكاتهم. فقد ورد في المادة الأولى من القانون رقم 199 ما يلي: «خلافاً لأي نص آخر، تعلق لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون مفاعيل البنود التعاقدية المتعلقة بالتخلف عن تسديد القروض بكافة أنواعها، سواء المدعومة منها وغير المدعومة، من تجارية وسكنية وصناعية وزراعية وسياحية وبيئية وتكنولوجيا معلومات، بحيث لا تسري على المقترض ايّ جزاءات قانونية او تعاقدية، بما في ذلك ايّ زيادة على معدل الفائدة بسبب التعليق اعتباراً من تاريخ 1/1/2021.

تعلق جميع الإجراءات القانونية والقضائية والعقدية التي يباشر بها خلافاً لأحكام هذا البند، وتتوقف مهلة مرور الزمن المسقط للحق خلال مدة نفاذه».

لذلك نرى انّ المهل علقت ولا تستطيع المصارف رفع اي دعوى او فرض فوائد تأخير على القروض، مع العلم ان بعض المصارف لا تكترث بذلك وتفرض غرامات التأخير خلافا» للقانون، ويستطيع المقترض مراجعة القضاء لأخذ حقه.

 في الختام لا بدّ من الاشارة الى انّ الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها الوطن هي ظروف قاسية ويجب على الجميع التكاتف من اجل الخروج منها، وهي أسوأ من الظروف التي مرت في نهاية الثمانينات حيث انه في السابق لم تجمّد الاموال في المصارف وكان باستطاعة الناس تحصيل أموالهم، اما الآن ومع تحوّط الناس بتحويل ودائعهم الى دولار الا أنهم وجدوا انفسهم أمام قرارات جائرة بعدم السماح لهم بالحصول عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى