أولى

البعض يأكلون الحصرم ونحن مَن يضرس…

 سعادة مصطفى أرشيد _

شكلت أزمة المناخ العالميّة تهديداً يمسّ سلامة الكوكب ومَن يعيش عليه من بشر وما ينمو عليه حيوان ونبات، وذلك لما يحدث من احترار في الجو، الأمر الذي أدّى إلى عقد أول قمة عالمية للمناخ في ستوكهولم/ السويد عام 1972، بلغ عدد القمم ستاً وعشرين قمة، وكان آخرها القمة التي عُقدت لشهور مضت في غلاسكو/ اسكتلندة.

الأسباب التي أدّت إلى هذا الاحترار والثقوب الثاقبة لطبقة الأوزون في الغلاف الجوي للكوكب تعود إلى الانبعاثات الصادرة عن استخدام مصادر غير نظيفة للطاقة مثل الفحم الحجريّ والبترول، وقد رأت بعض الدول والشعوب في ذلك الزمن في قمة المناخ الأولى أنّ بها نوعاً من الترف وشيئاً من التكلف الزائد، فيما أدركت دول أخرى وبشكل مبكر أهمية البحث عن مصادر طاقة أكثر نظافة.

وبما أنّ المعرفة قوة، فإنّ الدول التي امتلكت المعرفة ـ القوة، قدرت ذلك وبحثت عن مصادر نظيفة للطاقة وأجرت أبحاثها ومسوحها، ثم طوّرت من صناعاتها بما يتواءم معها، فكانت هي الأسرع بالمبادرة والعمل على حجز مواقعها وأماكنها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تركيا التي امتلكت معلومات عن توفر احتياطي ضخم من الغاز في شرق المتوسط، تحركت مبكراً فقامت بغزو قبرص عام 1974 وقسّمتها وأطاحت برئيسها المطران مكاريوس، بالطبع تذرّعت تركيا بذرائع عدة ومنها ذريعة الدفاع عن القبارصة الأتراك وحقوقهم، ولكن الغاز هو السبب الحقيقي وهو السر وراء ذلك الغزو الذي لم يُعرف إلا مؤخراً، مثال آخر وهو معرفة شركات النفط الأميركية بمخزون الغاز في قطر دفعها لتحريض السعودية على محاولة غزوها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ولطرد شركة توتال الفرنسية.

مصادر الطاقة النظيفة التي يتمّ العمل عليها في المدى المتوسط والبعيد تشمل توليد الكهرباء من الطاقة النووية ومن أشعة الشمس وحركة الرياح وما إلى ذلك، أما الغاز فهو البديل قصير المدى والمعمول به الآن.

 لإنتاج الغاز عمالقته الكبار ومن هؤلاء العمالقة عالمياً مجموعة من شركات النفط الأميركية المتشاركة مع قطر عبر شركة (كيوتل)، وهؤلاء يصدّرون الغاز من خلال تحميله على ناقلات (بواخر) وبتكلفة نقل عالية ويحتاج وصوله للأسواق لزمن طويل نسبياً، أما العملاق الغازيّ الثاني فهو الاتحاد الروسي وشركته الحكومية (غاز برووم) التي تصدّر الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب نورد ستريم 1 السريع ومنخفض التكلفة.

روسيا الناهضة من رماد ما بعد مرحلتي غورباتشوف ويلتسين، سرعان ما أصبحت هدفاً للغرب تجب محاصرته، وضرب تجارته بالغاز التي تمثل الداعم الأكبر للاقتصاد ولعملية النهوض الروسي، فكان لا بدّ من إيجاد منافس للغاز الروسي وذلك بمدّ خطوط غاز برية للغاز القطري عبر الأراضي السورية إلى ساحل المتوسط ومن هناك إلى أوروبا، الأمر الذي رفضته دمشق وفاء والتزاماً مع الحليف الروسي برغم ما في ذلك من فوائد وإغراءات. فكانت حرب الغاز الأولى، الحرب على سورية وفي سورية، وإنْ ألبست ثوب الديمقراطية والحريات وما تهافت من قصص طلاب مدرسة في درعا، وقد كشف عن ذلك مؤخراً بصراحة (أو بوقاحة) حمد بن جاسم، أحد أكبر مهندسي تدمير سورية.

ما تقدم ومقادير الغاز التي تستبطنه السواحل السورية، لا بدّ أن تؤكد للقيادة الروسية ما للعلاقة مع سورية من أهمية للأمن القومي الروسي، والتي لا تتوقف عند ميناء طرطوس وقاعدة «حميميم»، ولهذا أيضاً يمكن فهم مشاريع إقلاق وتجويع لبنان التي تفتعلها (إسرائيل) عبر أدواتها في قضية ترسيم الحدود البحرية، وتحريضها لتلك الأدوات لإخراج روسيا من التنافس على الغاز لصالح الشركات الأميركية، كما محاولتها التهام 850 كلم مربعا من المياه الإقليمية للبنان والتي كانت ستأخذها لقمة سائغة لولا وجود المقاومة القويّ، فيما تقترح الوساطة الأميركية أن تقوم شركاتها باستثمار الغاز في الحقول المشتركة وإسالته وبيعه ثم توزيع الأرباح بين لبنان و(إسرائيل).

يعمل الحلف الأميركي الغربي على تنظيم سوق الغاز، فتمّ في عام 2019 تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط من الأعضاء المؤسّسين مصر والأردن وفلسطين و(إسرائيل) واليونان وإيطاليا وقبرص اليونانية، وفي العام التالي تمّ التوقيع على اتفاقية تجعل منه منظمة إقليميّة، حدّد وزير الطاقة (الإسرائيلي) في حينه أهدافاً إضافية لها: أن هذه المنظمة الإقليمية ـ المنتدى ستساعد في إحلال السلام ودفع عجلة التطبيع مع دول عربية، وهي ستعزز من دور بلاده الرائد في تجارة الغاز مع جيرانها العرب وأوروبا .

هكذا نرى أنّ الغاز هو عنوان القرن الحادي والعشرين، وكلما تقدّم الزمن تزداد أهميته وتعقيداته أكثر فأكثر. الجميع أصبح عارفاً بمقدار أهمية هذه السلعة التي تستحق شنّ الحروب من اجلها عند من يستطيع، أو ابتلاع اللسان عند من لا يستطيع كحال ألمانيا، التي ارتفع صوتها حيناً بالهجوم على روسيا وعلى عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ولكن خط نورد ستريم 1 لا يزال يعمل بكامل طاقته مزوّداً ألمانيا بالغاز الروسي بسعره الجديد، ومزوّداً روسيا بما يقارب ملياري دولار كلّ صباح، وهو الشريان الذي يمدّها بالقوة على مقاومة أشكال الحصار الأخرى وعلى تمويل جيشها في أوكرانيا .

قبل عقدين من الزمن كان النفط، وللتذكير أنّ الأميركي عندما دخل بغداد، لم يكن على رأس أولوياته المقار الرئاسية للرئيس العراقي أو قيادة الجيش والأمن ووزارة الدفاع وإنما توجه أول ما توجه لوزارة البترول. أما في العالم اليوم فإنه الغاز، أما حالنا فهو يشابه القول إن هنالك من يأكل الحصرم فيما نحن… شعوباً وقبائل من تضرس بأحماضه، فنصيبنا من النفط والغاز هو طبقات حكم متهافتة وتقسيم أوطان…!

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى