أولى

الحرب الأهلية الرأس المالية في العالم: قراءة اقتصادية سياسية للمواجهة في أوكرانيا

} زياد حافظ*

يعتبر بعض المراقبين الدوليين المخضرمين كسفير الهند السابق م. ك. بهادرا كومار والذي يؤكّدها مراقب آخر مرموق الستير كروك الضابط السابق في المخابرات البريطانية وصاحب موقع «كونفليكت فوروم» (منتدى الصراعات) أنّ المواجهة في أوكرانيا هي مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة. هذه مقاربة صحيحة إلاّ أنها لا تفسّر لماذا؟ فالمواجهة التي نشهدها على الصعيدين الدولي والإقليمي هي بين محور صاعد ومحور متراجع على وشك الانفراط وهي فعلياً حرب أهلية بين رأس ماليتين: رأس مالية صناعية إنتاجية ورأس مالية ريعية مالية. المحور الصاعد هو محور الرأس المالية الصناعية الإنتاجية التي تقوده الكتلة الأوراسية ومعها دول الجنوب الإجمالي (Global South) بينما المحور الثاني هو الرأس المالية الريعية الإنتاجية المالية التي تقوده الولايات المتحدة ومعها دول الغرب وخاصة دول التحالف الانكلوساكسوني. فالمحور الانكلوساكسوني انتهج سياسة اقتصادية منذ خمسة عقود فرضها على حلفائه في أوروبا أدّت إلى التخلّي عن الإنتاج الصناعي للدخول في عصر ما بعد التصنيع عبر التركيز على الخدمات بشكل عام والخدمات المالية بشكل خاص. والتحوّلات في البنية الاقتصادية والسياسية التي حصلت من جرّاء سياسات مالية ونقدية أدّت إلى تغلّب الريع على المصادر الأخرى لإنتاج الثروة.

ولتجنّب فقدان القوّامة والهيمنة في المشهد الاقتصادي الدولي اعتبرت النخب الحاكمة في الغرب من الطيف النيوليبرالي أن السيطرة على المال والنقد تكفي للسيطرة على الاقتصاد وبالتالي على الدول. هذه هي نظرية كيسنجر الذي اعتبر ان السياسة النقدية هي مفتاح السيطرة على العالم والتي روّج قوّامتها في ما بعد الاقتصادي ميلتون فريدمان وعلى الصعيد السياسي مارغاريت تاتشر ورونالد ريغان. لكن هذه النظرية كانت خاطئة منذ اللحظة الأولى لأنّ السيطرة على العالم تأتي من بوّابة السيطرة على الغذاء والطاقة والموارد الطبيعية وليس على المال كما أكدته التطوّرات خلال العقود الخمسة الماضية. هذا هو جوهر الصراع بين الرؤية النيوليبرالية الضيّقة الأفق والواقعية السياسية في الصراع الجيوسياسي للسيطرة على الجزيرة الأوراسية حيث تكمن موارد العالم في الغذاء والطاقة والمعادن. الانسان لم يعد قيمة اساسية في النظام النيوليبرالي الغربي الذي تمّت دحرجته إلى مستهلك ممنوع عنه التفكير وتقرير المصير.

السيطرة على الإعلام الشركاتي

 لذلك كانت الموجة للسيطرة على الاعلام عبر التمركز الشركاتي في العالم الغربي وسلب حرّياته الدستورية في التعبير.

والهيمنة الاقتصادية في النظام النيوليبرالي كانت عبر البوّابة المالية عندما تحوّل الدولار إلى عملة الاحتياط الأولي وحتى الوحيدة في العالم. لم يكن ليحصل ذلك لولا قرارين أساسيين اتخذتهما إدارة ريشار نيكسون في 1971 و1973. فالقرار الأول هو قطع صلة الرحم بين الدولار والذهب والقرار الثاني بعد حرب تشرين عندما اقنعت الإدارة الأميركية بلاد الحرمين ومن خلال الأخيرة جميع الدول النفطية في منظمة أوبك تسعير برميل النفط بالدولار. هذا القرار مع القرار السابق بقطع العلاقة مع الذهب مكّن الإدارات الأميركية المتتالية في طباعة الدولار دون أي مساءلة أو محاسبة ما سمح لها بتمويل العجر المتفاقم في الموازنة الأميركية. وهذا العجز ساهم في تمويل الحروب الخارجية الأميركية ومشاريع زعزعة الاستقرار العالمي أينما شاءت في المكان والزمان.

العجز في الموازنة الأميركية ساهم في تكوين الدين العام الذي تجاوز 30 تريليون دولار ناهيك عن الدين الخاص الذي يعود للشركات والأفراد الذي يقدّر ب 38 تريليون دولار. أما الناتج الداخلي فلا يتجاوز 23 تريليون دولار أي بمعنى آخر فإن الدين العام يشكل 130 بالمائة من الناتج الداخلي بينما الدين الخاص تجاوز 165 بالمائة من الناتج الداخلي. ومجموع الدين العام والدين الخاص يقدّر في 2022 إلى 68 تريليون دولار أي 296 بالمائة من الناتج الداخلي. هذا يعني أن الولايات المتحدة مفلسة وإن كانت لديها موارد تستطيع أن تنقذها. لكن السياسات التي اتبعتها خلال العقود الخمسة الماضية أدّت إلى حالة افلاس. لكن هذا الإفلاس تمّ تمويله عبر جعل الدولار العملة الاحتياطية الأساسية في العالم مما سمح للولايات المتحدة طباعة الدولار لتمويل رفاهية في الحكومة وفي القطاع الخاص على حساب مصالح الدول الأخرى. هذه السياسة لم تعد ممكنة وقد يكون لها عواقب مهمة.

فهذا الإفلاس الذي هو أكثر من افتراضي ويهدّد وجود الكيان الأميركي. لذلك أصبحت السيطرة على المقدّرات الاقتصادية في العالم ضرورة للبقاء للولايات المتحدة. وهذه السيطرة تستدعي حروبا مستدامة إما للقضاء على الخصوم المحتملين في الحدّ الأقصى أو لاستنزافهم في الحدّ الأدنى. فالإفلاس هو المحرّك لسياسات عدوانية لا نهاية لها إلا بنهاية النموذج الأميركي القائم حاليا في الاقتصاد وفي السياسة. لذلك نفهم الاستشراس في السياسات الأميركية عبر مقولة ما لنا هو لنا فقط وما هو لكم هو لنا أيضاً فأنتم وكلاء لنا فقط لا غير. والمقصود بـ «لنا» هو النخب الحاكمة وليس المواطن الأميركي! هذا ما صرّح به بشكل واضح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي عبّر عن يقين السياسات الأميركية تجاه الدول النفطية حيث اعتبر النفط العربي ملكا للولايات المتحدة.

السياسات النقدية والمالية التي اتبعتها الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة الماضية أدّت إلى سيطرة الدولار على العالم وبالتالي ساهمت في تكوين ريع افتراضي للولايات المتحدة ساهم في الإمعان في تلك السياسات. فعندما أصبح الدولار عملة الاحتياط للدول فهذا أدّى إلى تمويل العجز في الموازنة الأميركية بدون كلفة. فالدول التي تملك احتياطاً بالدولار مضطرة إلى شراء سندات الخزينة التي هي الوسيلة لتمويل العجز. تمّ التعامل بذلك حتى أقدمت الولايات المتحدة على حجز أموال المصرف المركزي الإيراني ثم الليبي ثم الفنزويلي ثم الافغاني ثم الروسي. هذا يعني أنّ الدول التي تملك احتياطاً نقديا بالدولار مهدّدة في أي وقت بخسارة أموالها إذا كانت سياساتها متناقضة مع سياسات الولايات المتحدة. هيمنة الدولار كعملة احتياط انتهت عندما احتجزت أموال دولة عظمى. هل تستطيع الولايات المتحدة التعامل مع الواقع الجديد؟ في رأينا كلا ولكن هذا حديث آخر!

لكن هذا جزء بسيط من نتائج تلك السياسات. فالبنية الاقتصادية أصبحت عاجزة عن التنافس في الإنتاجية وبالتالي في النمو الفعلي. بمعنى آخر إنّ الناتج الداخلي الذي ارتفع من 1،7 تريليون دولار سنة 1975 إلى 23 تريليون دولار سنة 2020 أيّ 14 ضعفا لم يجار الارتفاع بقيمة البورصة لنفس الفترة حيث ارتفع الداو جونز بنسبة 54 أضعاف. فكيف يمكن أن ترتفع قيمة الشركات بتلك النسبة التي تفوق ارتفاع الناتج الداخلي كمّاً ونسبياً؟ وهنا لم نتكلّم عن الخسارات المحتملة في البورصات الأميركية خاصة في المشتقات الورقية التي تعود إلى اقتراض مفرط مبني على تقديرات للمستقبل دون أيّ سند. فالخسارات المحتملة قد تكون بالكوادريليونات من الدولار أي أرقام فلكية. وإذا اعتمدنا الإحصاءات التي تقدّر القيمة السوقية للشركات الأميركية المتداولة في الأسواق أي ما يوازي 68 تريليون دولار فهذا يعنى أن هناك ثروة معظمها افتراضية لا تتماهى مع الإنتاج الفعلي. فمن أين اتى ذلك الفارق؟

الفارق مصدره السياسات النقدية المعتمدة وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية حيث التسهيل الكمي النقدي (quantitative easing or QE) التي اعتمدها الاحتياط المركزي أدّى إلى إمداد الشركات بأموال (وبالتالي إلى تفاقم دينها) ليس لزيادة الطاقة الإنتاجية بل لرفع قيمة أسهمها! فالمسؤولون في الشركات الأميركية يتقاضون أتعابهم عبر الأسهم التي يأخذونها وبالتالي أصبحت اولويتهم رفع قيمة تلك الأسهم وإن كان على حساب الشركة التي يديرونها! والأمور لم تتوقف عند هذا الحد. فالاقتراض المسهّل بفوائد منخفضة جدّا أدّى إلى تدمير البنية الإنتاجية عبر وأد التنافس. فالعقود الثلاثة الماضية شهدت تمركزاً شديداً لمعظم القطاعات الاقتصادية في المال والنقل الجوي وإنتاج السيارات وشركات التواصل والمؤسسات المالية وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. فالاقتصاد الأميركي أصبح اقتصاداً تحكمه الحالة الاحتكارية وليست التنافسية ما أدّى إلى تراجع الحوافز للتجديد والابداع وبالتالي التقدّم التكنولوجي.

أرقام صينية مرعبة

الصورة مختلفة كلّياً إذا نظرنا إلى النموذج الصيني حيث حقّقت الصين معدلات نمو قياسية خلال العقود الأربعة الماضية وصلت إلى ثلاث أضعاف معدّلات النمو في الولايات المتحدة. السياسات المالية والنقدية أدّت إلى ارتفاع الاستثمارات في البنى التحتية والتعليم وفي الطاقات الإنتاجية وليس لدعم أسهم الشركات! الاستثمار كان في البشر كما كان في الحجر! لذلك استطاعت رفع أكثر من 250 مليون صيني من مستوى الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى بينما نشهد انقراض الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة والغرب الذي يتبع النموذج الأميركي عموما (بما فيه لبنان!). والصين استفادت من التكنولوجيا الغربية لتمكين وتطوير قاعدتها الإنتاجية حيث أصبحت أكبر دولة صناعية في العالم. والنموذج الصيني استند إلى دعم الدولة للقطاعات الإنتاجية سواء كانت مملوكة من القطاع العام أو من القطاع الخاص كما حافظت على التنافس وكبحت من الاحتكار. فالاحتكار هو مصدر ريعي بامتياز للثروة بينما الإنتاج مصدر عيني لها.

النموذج الصيني مزج بين قيادة سياسية مركزية متسلّطة (authoritarian) حصرت في الدولة مركزية التخطيط بينما النموذج الغربي اعتمد على قوّامة المؤسسة المالية في فرض الخيارات الاقتصادية على السوق. فالمؤسسات المالية المهيمنة، وهي خمس مؤسسات فقط تملكها أربع شركات استثمار وتوظيف فقط، هي التي تحدّد الخيارات مع الاحتياط الاتحادي الذي هو أيضاً مملوك من مصارف خاصة. أي بمعنى آخر الدولة خارج إطار التوجيه للاقتصاد العام وتتكل على «حكمة» السوق الذي تسيطر عليه الشركات المالية. فلا عجب التراجع في الإنتاجية والقدرات التنافسية، ولا عجب في الانكشاف تجاه الخارج بشكل عام والصين بشكل خاص لتلبية حاجاتها. النخب الحاكمة أدركت تلك المفارقة ولكن بعد أن فات الأوان. وهي تجهد منذ عقد من الزمن كبح النمو الصيني عبر وسائل عدة ولكنها لم تنجح بينما كان من المفترض مراجعة سياساتها ونموذجها الاقتصادي والعودة إلى عهد التصنيع بدلاً من الخدمات الريعية.

محاصرة الصين للانقضاض عليها تتطلب التخلّص من تحالفها مع روسيا. لذلك المواجهة مع روسيا التي بدأت فعلا بعد مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 حيث حذّر الرئيس الروسي بوتين من القطبية الواحدة وضرورة إعادة صوغ الامن الدولي على قاعدة احترام مصالح الدول بينما الولايات المتحدة المتفرّدة بالقرار الدولي لا تقبل بأيّ مشاركة. حاولت الولايات المتحدة كبح الصعود الروسي بقيادة بوتين الذي قضى على النخب المتحكمة بروسيا التي أوجدتها الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فكان عصر صعود الاوليغارشيات الروسية ومعها الغربية لنهب ثروات روسيا. مع وصول بوتين إلى السلطة توقّفت هذه العملية إلى حد كبير وهذا ما أزعج الولايات المتحدة التي حاولت محاصرة روسيا. فكانت موجة الثورات الملوّنة في أوكرانيا وجورجيا وحتى مؤخرا في كازخستان. والمواجهة المباشرة مع روسيا بدأت في عهد الرئيس الأميركي أوباما وفي أوكرانيا بالذات سنة 2014 مع الانقلاب الأميركي ضد النظام القائم في أوكرانيا والمنتخب ديمقراطيا. أدركت روسيا أنّ المواجهة مع الأطلسي لا مفرّ منها وبدأت التخطيط لها. لحظة المواجهة حددتها روسيا بعد أن أيقنت أن الأطلسي يهدف إلى قلب النظام في روسيا وعبر استنزافها في «مستنقع» أوكرانيا. غير أن الرياح الروسية لم تكن كما اشتهت السفن الأطلسية بشكل عام والأميركية بشكل خاص فكانت المواجهة التي نشهدها الآن والتي تنذر بزوال أوكرانيا وهزيمة الأطلسي والولايات المتحدة.

المهم في هذه المقاربة هو التركيز على التنافس بين رأس ماليتين. فالرأس المالية الريعية الأميركية الغربية لم تعد قادرة على التحكّم بالاقتصاد العيني بل فقط بالاقتصاد الافتراضي المالي وذلك عبر سيطرتها على شرايين المال. المواجهة مع روسيا عجّلت في العمل على إقامة نظام مالي خارج سيطرة الولايات المتحدة. والقرار الروسي بعدم التعامل في مبيعات الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي يشكّل ضربة قاسمة لهيمنة الدولار وأو اليورو ويكرّس جدوى التعامل بالعملات الوطنية كالروبل واليووان الصيني والروبية الهندية وسائر العملات الوطنية للدول الرافضة للهيمنة الأميركية، وذلك وفقاً للاقتصاديين الأميركيين المرموقين ريتشارد ولف ومايكل هدسون. وفقدان النظام الرأس المالي الريعي المالي القدرة على السيطرة على شرايين المال يضرب في الصميم النموذج الذي اعتمدته الولايات المتحدة منذ أن قرّرت توطين قاعدتها الإنتاجية خارج الولايات المتحدة. وجاءت جائحة كورونا لتكشف هشاشة ما تبقّى من القاعدة الإنتاجية الأميركية حيث معظم قطع الغيار للمصانع الأميركية تأتي من الخارج وخاصة من الصين. فالولايات المتحدة أصبحت بحاجة إلى العالم أكثر مما العالم بحاجة إلى الولايات المتحدة.

هذا هو الدافع المركزي لدى النخب الحاكمة في الولايات المتحدة لمواجهة روسيا. فهي معركة بقاء لنموذج اقتصادي سياسي يعتمد تمركز الثروة في يد القلّة ويؤثّر على المجتمع الأميركي الذي تحوّل إلى سوق استهلاكي فقط لا غير دون أن يكون له أي رأي. وكذلك الأمر في الاعلام الغربي عموما حيث الرأي الواحد هو السائد. فتمركز الاعلام الأميركي بيد ست شركات فقط يساهم في السيطرة على السردية السياسية المطلوبة ويضبط تدفق المعلومات. كذلك الأمر بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. وقد اتبعت هذه الشركات سياسة «إلغاء» الرأي الآخر ضاربة عرض الحائط الحق الدستوري في حرّية التعبير. كما يقوم الاعلام الشركاتي المهيمن وشركات وسائل التواصل الاجتماعي بتحويل انتباه المواطن الأميركي عن القضايا الأساسية عبر التركيز على قضايا أخلاقية وثقافية لا تمسّ بمصالح الراس المالية الريعية المالية. فخلال جائحة كورونا تمّ تغييب الحديث عن البطالة التي حصلت من جرّاء الجائحة وإقفال المشاريع. كما أنه تمّ استبدال الخطاب الثقافي بالخطاب المسائل لتوجهات الحكومة على الصعيد الاقتصادي والسياسي. كما تمّ أيضا تحميل مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية للرئيس الروسي بوتين كما جاء على لسان الرئيس الأميركي بايدن عندما صرّح بأن ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة هو من صنع بوتين!

ما يسيطر في الاعلام الأميركي ووسائل التواصل الاجتماعي هو انقلاب على المفاهيم والقيم المجتمعية عبر ترويج ثقافة الوعي (woke culture) التي تريد إعادة هندسة القيم المجتمعية كالجنوسية (gendering) التي تريد الغاء التمايز بين الذكور والإناث حتى عند الأطفال أي التسيّب في تحديد الجنس أو (gender fluidity)، وثقافة مكافحة العنصرية التي امتدت إلى كل شيء لا يتماهى مع مصالح النخب الحاكمة. فكل ذلك يتيح الفرصة للتكتلات الاقتصادية الاحتكارية الحفاظ على مصالحها دون أي مساءلة أو محاسبة. فالوضع الاقتصادي اليوم في الولايات المتحدة على وشك الانفجار السياسي والاجتماعي وما زالت النخب الحاكمة تعتقد انه باستطاعتها السيطرة على الأمور عبر السيطرة في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. الاستثمارات التي تحصل في الولايات المتحدة لا تعود إلى تنمية وتطوير الطاقة الإنتاجية لأن هدف النمو لم يعد لتحسين الأوضاع الاقتصادية للمجتمع بل لزيادة أرباح المستثمرين وإن كانت تلك الأرباح وهمية وافتراضية.

هذا التمركز الإعلامي الضاغط على حرية التعبير موجود أيضا في كل من الصين وروسيا. لكن الفارق هو أن الحكومتين استطاعتا أن تقدما للمواطن ما يريده. لذلك نرى تماسكا اجتماعيا في كل من روسيا والصين يمكن الحكومات من الاستمرار في بناء مجتمع أفضل على قاعدة التزاوج بين اقتصاد السوق وحكومة مركزية قوية تضبط إيقاع السوق عبر التخطيط المركزي. فالتخطيط المركزي ضرورة لضبط إيقاع اقتصاد معقد ومركّب مع تزايد السكان. الحل في الغرب هو عبر السيطرة على الشعوب عبر نزع حرّياتها في الحد الأدنى وتخفيض أعدادها في الحد الأقصى كما دعا كل من كيسنجر وبيل غيتس وكلوس شواب رئيس منتدى دافوس.

الجدل حول جدوى اللقاحات…

هذا ما غذّى الجدل حول جدوى اللقاحات في جائحة كورونا. في القرن التاسع عشر كان البريطانيون يروّجون لتجارة الافيون للسيطرة على القارة الآسيوية. في القرن الحادي والعشرين الافيون الجديد هو ما ابتكرته وسائل التواصل الاجتماعي لتخدير الناس وخاصة الشباب عن متابعة القضايا الجوهرية عبر التركيز على الملذّات. الهدف هو إفقار الناس ولكن برضاهم وجعلهم سعداء في ذلك الفقر!

الصراع بين الرأس الماليتين هو صراع بين سيطرة الأسواق المالية على المقدرات الاقتصادية (الرأس المالية الريعية المالية) وبين التمازج بين التخطيط المركزي وقوّامة الدولة من جهة مع مقتضيات اقتصاد السوق (الرأس المالية الإنتاجية). النموذج الأول لا يكترث بمصلحة الشعوب بل يكترث لمصلحة المساهمين فقط لا غير بينما النموذج الثاني يعتبر سعادة الانسان الهدف الرئيسي. لذلك وجدنا أن النموذج الريعي المالي لا يستثمر في البنية التحتية التي يستفيد منها الجميع بينما النموذج الثاني استثمر بكثافة في البنية التحتية وخاصة في التربية والتعليم.

هذا لا يعني أن الرأس المالية الإنتاجية هي معصومة من الخطأ الأخلاقي إلاّ أنها تحاول تخفيف من سطوة رأس المال على العمل. هذا هو دور الحزب الشيوعي الحاكم في الصين وهذا هو دور الدولة القوية في روسيا. إعادة توزيع الثروة بشكل عادل يساهم في الحفاظ على النموذج الاقتصادي. هذا ما قامت به الرأس المالية الغربية عندما كانت إنتاجية وليست ريعية. فمنذ ثلاثينات القرن الماضي أدركت ضرورة توزيع الثروة وإن بالحد الأدنى عبر مشاريع اقتصادية اجتماعية لمنع انتشار الشيوعية. لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم تجد النخب الحاكمة في الغرب أي مبرر لتوزيع الثروة بل أقدمت على إجراءات أدّت إلى تمركز الثروة بيد القلة. وهدف النخب الحاكمة النيوليبرالية في الراس المالية الريعية الإطاحة بما تبقّى من الدولة الريعية كالضمان الاجتماعي. ففي معتقد هذه النخب وذلك النموذج تحوّلت إلى الحقوق الاجتماعية إلى امتيازات يجب دفع ثمنها. المواطن لا حق له بالعمل او التعليم أو الاستشفاء أو الإسكان فهذه امتيازات عليه أن يدفع ثمنها. هذا هو الحال في لبنان! أما في النموذج الرأس المالي الإنتاجي وخاصة مع وجود الحزب الشيوعي في الحكم فإن العمل والتعليم والاستشفاء والإسكان حقوق وليست امتيازات. كذلك الأمر في روسيا وفي كلّ الدول التي تعتبر رفاهية المواطن واجب.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربية وعضو المنتدى الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى