أولى

هذا الوحش ليس إلا غباراً…

 سعادة مصطفى أرشيد _

اشتهر وزير الدفاع (الإسرائيلي) الأسبق موشي يعلون عندما خدم كرئيس أركان الجيش أثناء الانتفاضة الثانية بأنه صاحب نظرية كيّ الوعي، والتي تبنّتها حكومة اليسار في حينه برئاسة إيهود باراك، ثم ما لبثت أن تبنتها الحكومات كافة. هذه النظرية هي لطريقة التعامل والانتصار على الشعب الفلسطيني أساساً، واستعملت ببعض التحوير للتعامل مع العالم العربي المطبّع معها. ترى هذه النظرية أنّ كي الوعي الفلسطيني هو المقدمة الضرورية للانتصار عليه لاحقاً في أرض المعركة، وذلك من خلال تحطيم إرادته ومعنوياته وضرب منظومات قيمه وثقافته وتاريخه، ومحو هويته، وإشعاره الدائم بضعفه وفشله أمام (إسرائيل) المتفوّقة والمنتصرة في النهاية، وإحداث انشقاقات داخلية وزرع فئات مستفيدة (خلق طبقات جديدة) مما تقدّم، وتعمل على نشر الروح الانهزاميّة وثقافة الاستسلام.

هذه النظرية (الإسرائيلية)، ما لبثت أن أخذت أبعاداً متدحرجة وذلك إثر تعيين الجنرال الأميركي دايتون في أيار عام 2005 منسقاً للعلاقات الفلسطينية ـ (الإسرائيلية)، ( (USSCثم عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية والتداعيات التي تلاحقت وأخذت شكل الانقسام الجغرافي، فأضيف لعمل الجنرال مهمة الإشراف على تدريب ـ وللدقة على إعادة تأهيل، أجهزة الأمن الفلسطينية، وسرعان ما أصبح الجنرال نجم السياسة ومقررها بفضل امتداد نفوذه الى شتى الوزارات والإدارات الفلسطينية لا الأمنية فحسب. والجنرال متعدّد المواهب وله سيرة ذاتية مهمة وتجارب سابقة ساعدته في القيام بمهمته، فقد عمل سابقاً دبلوماسياً في موسكو ما بعد الاتحاد السوفياتي، وساهم في صناعة المجتمع المدني هناك عبر إنشاء منظمات غير حكوميّة ( (N.G.Osثم انتقل الى يوغوسلافيا ليكون له دور في شرذمتها ثم الى العراق في فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة.

عمل الجنرال دايتون على صناعة عقيدة أمنية جديدة للأمن الفلسطيني، حيث تتمّ تعبئة رجال الأمن بأنّ مشروعهم وعملهم لا علاقة له بالعودة والتحرير وحق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وإنما بالدفاع عن اتفاق أوسلو ووليدته السلطة الفلسطينية بكامل التزاماتها، ثم انّ العدو ليس (إسرائيل) وإنما العدو في الداخل الفلسطيني وكلّ من يعارض الاتفاق المشؤوم والالتزامات الواردة في نصوصه…

ما تقدّم ليس تحليلاً او اجتهاداً، بل هو ما أفصح عنه الجنرال متفاخراً بإنجازاته بمحاضرة ألقاها أمام جمع من السياسيين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى المقرّب من إيباك (اللوبي اليهودي) ونص المحاضرة موجود باللغة العربية على الشبكة العنكبوتية لمن يريد الاستزادة، ويضيف الجنرال بفخر وتبجّح أنّ أحد الضباط خاطب متخرجي إحدى الدورات قائلاً: ليست مهمتكم أن تقاتلوا (إسرائيل)، وإنما الحفاظ على الأمن، وهذا ما جعل ضباطاً في الجيش (الإسرائيلي) يسألونني بإعجاب: كم من هؤلاء الرجال تستطيع أن تصنع؟

تجاوزت صلاحيات الجنرال الأمن والتنسيق مع (إسرائيل)، باتجاه إعادة صناعة المواطن الفلسطيني وفق المحددات ذاتها، فعلى المواطن الفلسطيني أن يرى في العمل المقاوم للاحتلال عملاً موجهاً ضدّه أيضاً، فهو يؤدي الى إغلاق المعابر أمام حركة البيع والشراء ويعطل عمل السوق ويؤدي الى سحب تصاريح عمل العمال في الداخل الفلسطيني، المقاوم يصبح عدواً للشعب الفلسطيني لا لـ «الإسرائيلي» فحسب. هذا الفلسطيني الهجين والمشوّه الذي ظنّ دايتون انه صنع له عقيدة تقوم على الراتب وفوائد الاستسلام، وولاء لمن يؤمّن الراتب، فشلت. فـ «الإسرائيلي» لم يقدّم للسلطة مقابل احتضانها لدايتون ونظرياته وتدريباته إلا الإمعان في تهميشها.

 يا ترى ماذا لدى الجنرالين موشي يعلون ودايتون ليقولا تعقيباً على ما جرى ويجري انطلاقاً من جنين مدينة ومخيماً ومحافظة؟ وما حصل من زخم مقاوم واشتباكات من مسافات صفرية في أنحاء الضفة الغربية التي أصبحت تعيش أجواء انتفاضة ثالثة أو حالة حرب، وهي مرشحة للمزيد مع اقتراب عيد الفصح اليهوديّ خلال أيام، وما يمكن ان يحصل في المسجد الأقصى خلاله، وبالطبع غزة ليست شريكاً وإنما جزء من المواجهة، ولكن بما تحكمه الجغرافيا، وما هو قابع في أعماق العقل والقلب الفلسطيني بقي على رفضه للسموم وإن غلفت بالسكر، الشهيد رعد زيدان هو نجل عقيد في الأمن الفلسطيني، والشهيد السعدي هو عنصر سابق في الاستخبارات العسكرية والذي أطلق النار على المستوطنين المعتدين على مقام قبر يوسف في نابلس ضابط أمن، وهم يكذبون بالقول والفعل أية نظرية تظنّ أنها تستطيع تعمية الشمس بغربال باطلها. لم يستطع موشي يعلون كي الوعي الفلسطيني العام، ولا الجنرال الأميركي استطاع صناعة فلسطيني جديد وفقاً لمقياسه، إلا في حالات نادرة سيلفظها الزمن، وما حصل في الأيام الأخيرة يؤكد تهافت كلّ النظريات المعادية أمام حقيقة أنّ الاحتلال وكيانه إلى زوال، وأنّ الأميركي في تراجع.

 الاثنين الماضي تمّ عرض أبطال سجن جلبوع أمام المحكمة في الناصرة، استطاع الأسير محمود العارضة ان يمرّر خلال المحاكمة جملة واحدة نقلتها الصحافة: هذه (إسرائيل) ـ الوحش ليس إلا غباراً…

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى