أولى

الرياح الهادرة للثّورة الوطنيّة في لبنان والنسيم الرَّقراق للانتخابات الأخيرة لرئاسة المجلس النيابيّ ومكتبه

 د. وجيه فانوس*

لطالما عاين اللُّبنانيُّون وعاشوا ما تشهدهُ الدَّولةُ اللُّبنانيَّةُ منذ عهودٍ عديدةٍ ومديدةٍ، مِن سوءِ إدارةٍ مُغرقٍ في استِخفافه بالوطنِ، ومِن سوءِ توظيفٍ فِعليٍّ لِلثَّروةِ الوطنِيَّةِ العامَّةِ، غيرَ مُبالٍ بخدمةِ المواطِن، لِكَوْنِهِ مُواطِناً، بغضِّ النَّظرِ عن دِينِه أو مَذهبِهِ أو انْتِمائِهِ الجُغرافِيِّ أو معتقداتهِ السِّياسيَّةِ.

عرفَ اللُّبنانيُّون حالاتِ احتجاجٍ عديدةً تواجه هذا الوَضْعَ، وقد ضَجَّت بِجَلَبَتِها بَعضُ الأجواءِ الشَّعبيَّةِ الرِّيادِيَّة؛ ولعلَّ هذا بدأَ منذ مراحل زمنيَّة مُمْعِنَةٍ في البُعد، بل هي، في الواقِعِ، مراحلُ تَسْبُقُ حتَّى تاريخَ إعلانَ دولةِ الاستقلالِ سنة 1943. وكانت غالبيةُ هذه الجَلَبات الاحتِجاجيَّة تَظهرُ عَبْرَ أحزابٍ وتَجَمُّعاتٍ وهيئاتٍ وشخصيَّاتٍ، طالما عُرِفَت بإيمانٍ لها بالفاعليَّةِ الإيجابيَّةِ للحُرِّيَّةِ، ولطالما كانت تسعى، تالياً، إلى توطيدِ مفاهيمها بعيداً عَن التَسَلُّطِ الاستِغلالي لزعاماتِ الإقطاعِ والنٌّفوذ الأبويِّ (البطريركيِّ) لِكثيرٍ مِن رجالِ الدِّين وعلمائه.

وظلَّ الحالُ على هذا، يعلو نبضُهُ في مرَّات، ويَخْفُتُ في مرَّات أخرى؛ حتَّى كان ثمَّة تَطَلُّعٌ، مفادهُ أنْ ثَمَّةَ إمكانيَّة لبزوغ منطق المُواطَنَةِ الفِعلِيَّةِ في وجودِ الدَّولةِ اللُّبنانيَّةِ وإداراتِها ومناهِجِ سِياسيِّيها، عِنْدَ بعضٍ مِمَّن كابدوا أَهوالَ الاقتِتالِ الأَهلِيِّ، بين سنتي 1974 و1989؛ وكانت لدى هؤلاء رؤىً سياسيَّةً ومنهجِيَّةً تسعى إلى أنْ يَتحوَّلَ، ما اعتقده بعضهم جَلَبَةً أو مُجَرَّدَ ضجيجٍ سياسيِّ ثوريٍّ، ليصبح مُنذِرا بِهَدِيرٍ سَافِرٍ دامِغٍ لِرفضٍ واعٍ للتَّسلطِ السِّياسيِّ والاستثمارِ الإقطاعيِّ والاستغلالِ الطَّائفيِّ.

وكان أنَّ ما جرى اعتمادُهُ في اتفاق الطَّائف رسمِيّاً، في أيلول (سبتمبر) 1989، جاءَ لِيُثْبِّتَ وجودَ فاعليَّةِ الطَّائفيَّةِ السِّياسِيَّةِ بقوانينَ واضحة، ويؤكِّد مَساوئ كلّ ما كان يَرفضُهُ هؤلاءِ اللُّبنانيُّون ويَسعونَ إلى تغَييرِهِ، بِنُصوصٍ دستوريَّةٍ لا فَكاكَ منها سوى بشروطٍ هي غاية في التَّعقيدِ وبمُنتهى الصُّعوبةِ، بَل والاستحالةِ.

ظلَّ لبنان، على هذا الحال القائم بهذا المفهوم الطَّائفيِّ، يعيشُ ضَياعاً أو تِيهاً أو ارتِباكاً، لِما حلمَ بهِ بَعضهم مِن انطلاقٍ لِذلِكَ الهَديرٍ الثَّوريٍّ التَّغييريٍّ الفِعلِيٍّ؛ إذْ لَمْ يَتمكَّن البلدُ مِن الخروجِ مِن النَّفقِ المُدلَهِمِّ الظُّلمةِ لِعِبِء الرُّزُحِ الأَعمى تحتَ ثِقلِ المَطالِبِ المتنامِيّةِ والمصالِح الانتِهازِيَّةِ والاستِغلالِيَّةِ الاستئِثارِيَّةِ لثماني عشرة طائفةٍ دينيَّةٍ مُختلفة؛ وهِي المطالبُ والمصالحُ التي تتعارضُ، غالباً، في ما بينها وتتناقض أو تتوافق؛ غير أنَّ ناسَها عرفوا كيف ينهضونَ بِها، أبداً، ضمنَ منهج التَّحالفِ المَصلحيِّ المُشتركِ في ما بَينهم، على حِسابِ المواطن.

أخيراً، هدرت في 17 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2019، رياحٌ تُنْذِرُ الطٌّغاةَ بغضبٍ مُرْعِبٍ، وتُبَشِّرُ كثيراً مِن الأحرارِ بنهوضِ ثورةٍ وطنيَّةٍ جامحةٍ في لبنان. كانتِ الرُّؤى، آنذاكَ، تَنْظُرُ إلى ثورةٍ تقلعُ عينَ الطَّائفيَّةِ السِّياسيَّةِ، مِن أَعمَقِ أعماقِ جُحُورِها؛ وثورةٍ ترفضُ الاستغلالَ الإقطاعيَّ، بكلِّ ما لِجذورهِ مِن امتدادٍ في شِعابِ الزَّمنِ وعَبْرَ جُلولِ التَّاريخ. هي ثورةٌ انطلقت مِن أنَّه قد طفحَ الكَيْلُ؛ فلا مجال، أَبَداً، لاستقواءِ هذهِ الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بِزِمامِ السُّلطةِ في البَلَدِ، وَلَوْ بِاستقواءٍ لا يتجاوز تغريمَ المُواطن ما يُعادل ستَّ بنساتٍ، في حالِ استخدامه لِواسطة التَّواصلِ الاجتِماعِيِّ، WhatsApp، المجانيَّة أصلاً. وسُرعان ما توسَّعت دائرة هذا الهدير لتصبحَ إدانةً دامِغَةً على مستوى الدَّولة للحُكمِ الطَّائفيِّ، ودليلَ إِثباتٍ على ركودِ الاقتصادِ، وشاهِدَ حقٍّ صارِخٍ على البطالةِ التي بلغت، في حينه، 46%، وحُكْماً مُبرَماً على بَغيِ الفسادِ الموجودِ في القِطاع العام، وإدانةِ التَّشريعات التي يُنظر إليها على أنَّها تحمي الشَّبكةَ الحاكِمَةَ مِنَ المساءلةِ القانونِيَّةِ إِدارِيّاً وجِنائِيّاً ووطَنِيّاً؛ فضلاً عن التَّأكيدِ، الصَّارِخِ والفَاضِحِ والقَاطِعِ والمَكْشُوفِ، بإخفاقاتِ الحكوماتِ المتعاقبةِ، في توفيرِ الخدماتِ الأساسِ، ومنها «الكهرباء» و»المياه» و»الصَّرف الصُّحيِّ»، ناهيكَ بالحفاظِ على «المال العامِ»، و»وودائع المواطنين» لدى المصارف.

ثمَّة من يرى أنَّ هذا الهدير الدَّامغُ والواعدُ، في حينهِ، قدَّمَ فاعلِيَّةً طَنَّانَةً في كشف ملفاتِ فضائحَ عديدةٍ ومتراكمةٍ للدَّولة اللُّبنانيّ، فنجحت في تعرية السُّلطةِ وفَضْحِها؛ وهذا ما أدَّى، بطريقةٍ أو أخرى، إلى كَسْرِ حواجزٍ للخوفِ طالما كانت قائمةً في نفوسِ كثير من المواطنين؛ وهذا ما ساعدَ على الأمل الشَّعبِيِّ الوَطنِيِّ، بأنَّ التَّغيير آتٍ وأنَّ البؤس والاستِغلالَ في لبنان على زوال.

ويفيد واقعُ الحالُ، أنَّ «ثورةَ الهديرِ»، هذهِ، لَمْ تُظْهِرْ أيّ مجالٍ فِعْلِيٍّ لِتوحيدِ كلمتها؛ ولعلّ من ذرائعِ هذا الحال أنَّها «ثورةٌ» لا تقودها أيُّ جهةٍ مُحَدَّدة أو رؤيةٍ معمَّقةٍ موجِّهَةٍ، بقدرِ ما كانت «ثورةُ هديرٍ» صادقةٍ وعفويَّةٍ التَّفت حولها قطاعات واسعة من الشَّعب.

بالأمسِ الفارِط، وفاق تعبيرِ أهلِنا المغاربةِ، كان ثمَّة احتفالٌ بوصولِ جماعاتٍ تنتمي إلى ما بات يُعرَفُ بـ «ثورةِ 17 تشرينِ»، بجلوسِها على مقاعد المجلس النِّيابيِّ اللُّبنانِيِّ، جرَّاء انتخابات نيابيَّة رسميَّة اعترفت بها الإدارات الرسميَّة للدَّولة. وكانت هذه المواجهةُ الأولى لهذه المجموعة، ولربما لسواها من مجموعات نيابيَّة عتيقة كانت تدَّعي رفض ما يعيشهُ اللُّبنانيُّون من بؤسٍ إداريٍّ وسِّياسيٍّ ونقديٍّ وحتَّى قضائيٍّ؛ بالتَّفاعل مع الانتخابات المقرَّرة لرئاسة المجلسِ النِّيابِيِّ وللعضويَّة مكتب هذا المجلس. ولقد تبيَّن، بالمتابعةِ المباشرة، لنتائج المواقف المعلنة والمضمرة، وكذلك للغةِ الخِطابِ السِّياسي النِّيابي والوطني، لهذه المجموعة تحديداً من النُّوَّاب الجُدّدِ وحتَّى القدامى، أنَّها قادرةٌ فِعلاً على أنْ تكونَ بمستوى طُموحاتِ ذلكَ الهَديرِ الدَّامغِ والواعدِ، الذي امتشقَ سيف أحلامِ الوَطنِ في 17 تشرين 2019؛ إذ بدا أَنّ الهديرَ الصّاخِبَ لِرياحِ لغةِ الثَّورة، قد انْكفَأ بكلِّ مهابَةٍ وتهذيبٍ أمام رقرقاتٍ لِنسائمِ غَرَّاء مُونِقَةً، ما برحت تسيطر بكلِّ ثقةٍ على أجواءِ انتخاباتِ رئاسةِ المجلسِ النِّيابيِّ اللُّبنانِيِّ وعضويَّة مكتبه.

لقد سبقَ أنَّ حرَّض منصور الرَّحباني، منذُ أربعٍ وثلاثينَ سنة، أيّ سنة ١٩٨٨، المناضلينَ في سبيلِ الوطنِ، في مسرحيَّتِهِ «صيف 840»، على المَوْتِ أو الحُرِيَّة؛ إذْ أَنْشَدَ، «سيفُ البَحرِ»، بطلُ هذهِ المَسْرَحِيَّةِ، وقد جسَّد شخصيَّته، آنذاكَ، الفنَّان غسَّان صَلِيبا، «لَمَعِتْ أَبْواقْ الثَّورةْ/ سَكَن الحِقْد المَسافَات/ قَوِّي قَلْبَكْ وِهْجُومْ/ يا بْتُوصَلْ عَلَى المَوْتْ/ يا بْتُوصَلْ عَالْحُرِّيِّةْ». تُرى لِمَ هذا الشَّعبُ اللُّبنانيُّ، الذي طالما كَثيرونَ مِن ناسِهِ، شِيباً وشُبَّاناً، تَغنّوا، طِوال أَربَعٍ وثلاثينَ سنةٍ مُتواصِلَةٍ، بِهذهِ الأُنشودةِ الثَّورِيَّةِ، في سَهراتِهِم ورِحلاتِهِم ومَدارِسِهِم وكثيرٍ مِن تظاهراتِ احتِجاجاتِهِم ورَفضِهِم وغَضَبِهِم، لَمْ يتَمَكَّنوا مِن تحقيقِ، سِوى الموتِ وحدِهِ، مِن كلِّ ما يَحُضُّ عَليهِ هذا النَّصِّ!

ها هُم، اليومَ، وبَعد أكثرَ مِن سنتينِ على نِداءاتِ «ثَوْرَةْ ثَوْرَةْ»، و»كِلُّن يَعنِي كِلُّن»، ما بَرِحوا يُحقِّقون بكلّ جسارةٍ ونجاحٍ وعبقريّةٍ، موتَ الحقوقِ، بفقدان المُحاسبةِ، وموتَ الطُّموحِ، بِظُلمِ الواقِعِ.

إِنَّ في ملامِحِ وجودهمِ وفاعليتهم، حتَّى الآن، ما لا يثبتَّ وصولاً إلى «حُريَّةِ قَوِّي قَلْبَكْ وِهْجُومْ»، التي يُحرِّضُ عليها نَصَّ منصور الرَّحباني؛ بل ثمَّةَ ما يدعو إلى قلقٍ كبيرٍ وألمٍ يَشْرَئِبُّ بِرأسِهِ مِن بينِ صفعاتِ الماضِي، مُلَمِّحاً إلى ما يبدو مَوْتاً للآمالِ وتَشَوُّشاً لِلرُّؤيا الوَطَنِيَّةِ الثَّوريَّةِ، ومَوْتاً آخرَ لِلشَّعبِ، مِن فَشلٍ أو انتحارٍ، وأخيراً، مَوْت الوطنِ، بضياعه.

هل حقيقةً، هذا الشَّعب لم يعرف، على الإطلاق، حتَّى وبعد وصولهِ إلى هذا المنعطفِ الأساسِ من تاريخه المعاصر، كيف يصل إلى الحريَّة؛ فما برح كثيرون من ناسه، وكما يتابع بطل هذه مسرحيَّة «صيف 840» إنشاده، يقفون في ليلِ العالم الدّامس، عند أبواب الأُمم، يتسوِّلون، بِنَهَمٍ مُرٍّ، ما يَرَوْنَه حُرِيَّةً لِذواتِهمِ، واستِقلالاً لِوَطَنِهم؟!».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *رئيس ندوة العمل الوطنيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى