أولى

تمديد المفاوضات يؤجّل الاشتباك استمرار السطو «الإسرائيليّ» يعجّل الردّ والحسم

 د. عصام نعمان*

ثمة تشخيص مغلوط لنزاعنا مع الكيان الصهيوني بشأن التنقيب عن النفط والغاز في منطقة الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. حقل «كاريش» هو عنوان النزاع، لكنه ليس أساسه. صحيح أنّ الصهاينة تجاوزوا في تنقيبهم عن الغاز الخط 29 بما هو الحدّ الجنوبي لمياهنا الإقليمية، لكن عدوانهم لا يتوقف عند تلك المنطقة بل يشمل كلّ الساحل اللبناني. ذلك أنّ الولايات المتحدة قامت، بإيعاز من «إسرائيل»، بمنع شركات الحفر والتنقيب الاختصاصية التابعة لدول الغرب الأطلسي من العمل مع لبنان في مياهه الإقليمية.

 لنفترض أنّ الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين تمكّن من اجتراح معجزة التوصل الى تسوية بشأن حقل «كاريش» الواقع في المنطقة المتنازع عليها، فهل يعني ذلك استطراداً تمكين لبنان من التنقيب عن النفط والغاز في سائر مياهه الإقليمية؟ وإذا بقي التنقيب ممنوعاً، ما جدوى المفاوضات لاحتواء حقل «كاريش»؟

قد يقول قائل إنّ في وسع الوسيط الأميركي تضمين التسوية المطلوبة نصّاً يُلزم أميركا وغيرها برفع الحظر المضروب على شركات الحفر والتنقيب الغربية الراغبة في العمل مع لبنان في مياهه الإقليمية. الحقيقة أنه لو كان في مقدور هوكشتاين أن يفعل ذلك لما تأخر عن تضمينه اقتراحه الملغوم (والمرفوض) أثناء زيارته الأخيرة للبنان قبل أشهر. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة لها مصلحة في بقاء لبنان بمنأى عن الإفادة من ثروته النفطية والغازيّة ليبقى في وسعها التحكّم بسياسته واقتصاده من خلال نفوذها في دول الغرب الأطلسي والمؤسسات الأمميّة (صندوق النقد الدولي مثلاً) التي تمدّه بالقروض والمساعدات. فوق ذلك، استجدّت لأميركا مصلحة إضافية بعد الحرب الأوكرانية. فقد طالبت حلفاءها بوقف التزوّد بالغاز الروسي اقتصاصاً من موسكو مع التعهّد بتعويضهم الخسارة المرتقبة بكميات من غاز فنزويلا (ما يتطلّب إنهاء مقاطعتها!) والشرق الأوسط لا سيما الغاز المُراد استخراجه من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بموجب اتفاقٍ يضمّ مصر و»إسرائيل» وقبرص واليونان (وحتى تركيا) مع الحرص على إبقاء لبنان وسورية ممنوعين من التنقيب عن ثروتهما النفطية والإفادة منهما.

الى ذلك، ثمّة عائقان يحولان دون نجاح الوسيط الأميركي في اجتراح تسوية مقبولة من الأطراف المعنية. فلا «إسرائيل» في وارد التخلي عن حقل «كاريش» أو السماح بأن يكون مشمولاً بـِ «شراكة» مع لبنان، ولا لبنان سيقبل بذلك أصلاً، خصوصاً بعد إطلالة السيد حسن نصرالله مساء الخميس الماضي. إن «الإنجاز» الوحيد الذي يمكن أن يحققه هوكشتاين هو تجميد عمليات التنقيب عن الغاز واستخراجه من الحقل المذكور في حال نجاحه بتمديد المفاوضات الى أجل غير مسمّى!

حتى تمديد المفاوضات لن يحول دون الاشتباك. ذلك أنّ «إسرائيل»، بدفعٍ من مصالحها الذاتية وبتشجيع من أميركا، ستحرص دائماً على التحايل للإفادة من الاستثمار الكبير الذي وظّفته في حقل «كاريش» ما يدفع حزب الله الى تنفيذ تهديده بقصف أيّة منصّة «إسرائيلية» تسطو على ثروة لبنان النفطية في المنطقة المتنازع عليها.

ثم، هل أطراف المنظومة الحاكمة في لبنان، عازمون فعلاً على حزم أمرهم؟ هل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، سيتوافقون على اعتماد الخط 29 حدّاً فاصلاً بين مياه لبنان الإقليمية ومياه فلسطين المحتلة ما يجعل حقل «كاريش»، كله أو معظمه، ضمن المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة، أم تراهم يخفقون؟ واذا أخفقوا، هل يُحجم حزب الله عن استخدام القوة ضدّ «إسرائيل» المعتدية على حقوق لبنان السيادية أم يفي بوعده ووعيده فيضرب منصة حقل «كاريش»؟

إذا ضرب حزب الله حقل «كاريش»، كيف سيكون ردّ فعل «إسرائيل»؟ هل تكتفي بتسديد ضربة لهدف محدّد في لبنان تعتبره تابعاً لحزب الله أم توسّع دائرة الاشتباك فتضرب أهدافاً استراتيجية في عمق إيران منفذةً بذلك خطتها الهجومية الجديدة المسمّاة «القتل بألف طعنة» المستمدة من نظريةٍ مفادها أنّ إيران أصبحت على عتبة تصنيع قنبلة نووية، وأنها نجحت في إقامة صناعة صاروخيّة باليستية متقدمة، وكذلك صناعة مُسيّرات بعيدة المدى، وإنّ لجمها باستعمال القوة الآن ممكن وقد يصبح مستحيلاً في المستقبل المنظور؟

ثم أليس من الممكن أن تكون قيادة حزب الله، ناهيك عن القيادة السياسية في إيران (وحرسها الثوري) وربما قيادات أطراف محور المقاومة ايضاً، قد وضعت في الحسبان ما يمكن ان تقوم به «إسرائيل» من اعتداءات على نطاق واسع فاستعدّت تالياً للصدّ والردّ ايضاً؟

ثم أليس من المنطقي أيضاً أن تكون الدولة العميقة في الولايات المتحدة قد وضعت في الحسبان كلّ هذه الاحتمالات، وأن تكون قد استخلصت في ضوئها قراراً بعدم جدوى انزلاقها، هي و»إسرائيل»، الى حربٍ مكلفة وخطيرة التداعيات بينما تنخرط (واشنطن) في حربٍ أوكرانية طويلة الأمد على ما يبدو مع موسكو قبل أشهر معدودة من انتخابات أميركية نصفية قد تُؤدّي تداعياتها الى تقليص حظوظ الحزب الديمقراطي ــ حزب الرئيس بايدن ـ بالفوز فيها؟

إذا كان الأمر كذلك، ما التنازلات التي قد ترتئي إدارة بايدن أن على «إسرائيل» (وأميركا) تقديمها لتفادي حرب مكلفة مع إيران وحلفائها يمكن ان تتطوّر الى حرب إقليمية، كما كان حذّر السيد نصرالله قبل أشهر؟

أخيراً، وليس آخراً، أليست «إسرائيل» نفسها وسطَ أزمتها السياسية والاجتماعية في وضعٍ دقيق قد يحمل قيادتها السياسية والعسكرية على التفكير جدّياً في تفادي حربٍ مكلفة يستطيع خلالها حزب الله منفرداً ان يُلحق بجبهتها الداخلية، لا سيما بخاصرتها «غوش دان» (المتخمة بالعمران والسكان والبنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والمرافق العسكرية والموانئ البحرية والجوية) خسائر هائلة، فتقوم باستباق الكارثة بتقديم تنازلات تفتدي بها كيانها المهدّد؟

أسئلة دقيقة ومقلقة والإجابة عنها صعبة في مرحلة بالغة التعقيد والحساسية والخطورة. مع ذلك سأجازف باختصار:

 تمديد المفاوضات يؤجّل الاشتباك. استمرار السطو الإسرائيلي على ثروتنا النفطية يُعجّل الردّ، وربما الحسم، لصالحنا.

هل يتقدّم التعجيل على التأجيل؟ الجواب لدى «إسرائيل».

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى