أخيرة

المعرفة الإنسانيّة أمّ جميع الحقائق والوضوح معرفة الحقيقة الصحيحة

} يوسف المسمار*

يُؤثَر عن الفيلسوف زينون الرواقي أنه قال: «إن لنا لساناً واحدا وأذنين». ومن هذا نفهم أن علينا أن نسمع أكثر مما نتكلم. وقال أيضا: «إن الفلاسفة لا يُجذبون إلا َّ من آذانهم» أي مما يسمعونه من حكمة فاضلة.

يستفاد من هذا الكلام الحكيم أن لأدوات ووسائل المعرفة أولويّات ومراتب وبديهيّات.

فلا يُقدّم القول على حساب السمع ولا يؤثر السمع على حساب الرؤية والنظر ولا تُستبدل حاسة الذوق بحاسة الشم ولا حاسة الشم بحاسة اللمس. كما لا يليق بنا أن نتكلم حين يتطلب منا أن نصمت ونسمع. وأن لا نصمت في الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن ننطق ونتكلم. وأن لا نتهرّب من مواجهة الأمور حين يستلزم منا أن نواجه ونتخذ موقفاً. بل إن الكلام المعرفي الحكيم هو الذي يُعلم ويهدي وينفع، كما أشار الى ذلك العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده بقوله:

«العلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضرّ»

نستطيع، إذاً، بالمعرفة الهادية النافعة أن نهتدي الى نقطة البداية والانطلاق والطريق القويم، والصراع السليم المتّجه دائماً الى الغاية الراقية، والمثال الأعلى السامي.

بالمعرفة نكون أقوياء. وبالمعرفة يرقى فكرنا وتنجلي أمامنا الحقيقة التي نسعى إليها، ونصل الى حيث ينبغي أن نصل في عالم يعجّ بالغموض والبلبلة والظنون والشكوك.

تستلفت انتباهنا عبارة كتبت فوق مدخل أحد المعابد التنويريّة الذي أشاده الكنعانيّون السوريّون القدماء الذين عُرفوا بالفينيقيين الاسم الذي أطلقه عليهم اليونانيون، والذين سميَّ أتباعهم  ب»السفسطائيين» غباءً وظلماً لأنهم قالوا بالاهتمام في قضايا الوجود الإنساني قبل الاهتمام في قضايا ماوراء الوجود الإنساني، لأن الإنسان الذي لا يعي قضية وجوده هو أعجز من أن يعي مسائل ما وراء الوجود هذه العبارة التالية:

«أيها الإنسان اعرف نفسك». وقد نسبها الكثيرون للفيلسوف اليوناني سقراط اليوناني المولد والسوري الثقافة والعلم والفلسفة والذي تتلمذ على أيدي معلميه الكنعانيين دون أن يكون له ذنب ادعاء نسبة العبارة المذكورة إليه.

وعلى كل حال، فإن ما يهمنا هنا هو أن المعرفة الإنسانية هي الوسيلة الوحيدة الواضحة التي تعيننا على اكتشاف الحقيقة  القيّمة ومعرفتها وتقريرها. ومن المحال أن تقوم حقيقة إنسانية من غير المعرفة الإنسانية. إن المعرفة الإنسانية هي بالفعل أمّ جميع الحقائق الإنسانية.

 الحقيقة بالنسبة للإنسان قيمة إنسانيّة
قال العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده:
«إن الحقيقة هي قيمة فكريّة تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط».

نستنتج من هذا القول إنه لا يكفي أن يكون الشيء غير العاقل موجوداً في ذاته لتتكوّن قيمة حقيقته الإنسانية. بل إن افتراض المجهول بالنسبة للإنسان حقيقة هو ظنّ ونوع من التخمين وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانيّة التي لا يمكن أن تكون أو تقوم إلا بقطبيها: «الوجود والمعرفة»، فـ «إذ ليس من العقل والحكمة أن نمجّد أشياء ليست موجودة في دائرة معرفتنا» على حد تعبير الفيلسوف الكنعاني السوري زينون الرواقي.

إن كل وجود خضع للمعرفة الإنسانية وانتقل من المجهول الى حالة المعلوم أصبحت له قيمة إنسانيّة في وجدان الإنسان العارف والعالم به. وبهذه المعرفة وبهذه الحالة وبهذه القيمة أصبح حقيقة إنسانيّة.

 أما الكلام عن الأشياء والوجودات الكونيّة والأسرار والنواميس الخفيّة الافتراضية التي لم يتم اكتشافها بعد، ولم تخضع لدائرة وعي الإنسان فهو كلام عن أشياء لا تزال في حالة مبهمات وليس كلام عن وجودات مكتشفة ومعروفة اكتسبت باكتشافها ومعرفتها قيمة الحقائق الإنسانية، وهي لذلك لا يمكنها أن تحلّ مكان الحقائق الإنسانية لأن أساس المبهمات هو دائرة المبهم والغموض بينما أساس الحقائق الإنسانيّة هو في الوضوح والتعيين.

 الوضوح هو قاعدة كل حقيقة

كل معرفة لا تستند ولا ترتكز على برهان عمليّ، ووجود فعليّ ليست بمعرفة علميّة عمليّة، بل هي تستند الى الافتراض والتكهّن.

ومهما ارتقت مرتبة الافتراض والتكهن لا يمكن أن تكون أساساً لوعي سليم، أو مرتكزاً ًلمعرفة صحيحة، أو قاعدة متينة لقيام أية حقيقة – قيمة.

إن الوضوح هو الحالة المثلى التي تساعدنا وتمكننا من الوقوف على معنى حقيقة الفلسفة المجتمعيّة الماديّة  الروحيّة وفهمها فهماً راقياً صحيحاً يحملنا على ممارسته حياة ونمواً وتقدماً ورقياً.

لا قيمة إنسانية مطلقاً لأي مبهم. ولا معنى لأية حقيقة افتراضية إن لم تخرج الإنسان من ظلمات مفاهيم الغرائز والأوهام والخرافات والأهواء الى نور مفهوم الوضوح والجلاء والتحديد. ولا نفع بالتالي من كل القيَم والحقائق الافتراضيّة التي تخرج عن سير وأطوار نشوء الإنسان وتطوّره ومراتب وعيه ومستوى رقيه.

إن الوضوح هو الذي يهدينا الى بداية البدايات وأولى الخطوات التي نهتدي بواسطتها الى معرفة قيمة الحقيقة الإنسانية. إنه:

«معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة. إنه قاعدة لا يُستغنى عنها. ولا بدّ من اتباعها في أية قضية للفكر الإنسانيّ والحياة الإنسانيّة»، على حد تعبير الفيلسوف أنطون سعاده.

وللإفادة من كل بحث لا بدّ لنا من يقظة روحيّة تخلّصنا من غفوة تاريخيّة طال أمدها، واستفحل أمرها فحجبت عنا الرؤية السليمة الواضحة، والسمع السليم , وكبلت العقل، وبلبلت التفكير، فوجب علينا قبل كل شيء تمزيق الحجب، وتحرير العقل، وإطلاق المواهب، والتخلّص من واقع التخلف والانحطاط لننتقل الى حالة التنوّر والوعي والرقي، وعندها يتعافى نظرنا وسمعنا وتفكيرنا وتبصرنا فترتقي أنماط عيشنا ومستويات حياتنا وخطط فكرنا، فنرى ونسمع ونعقل ونتصرّف كما ينبغي بالإنسان العاقل الراقي المتبصّر أن يرى ويسمع ويعقل ويتصرّف.

وعندها لا نتيه ولا نقع في الأخطاء التي وقع فيها كثير من الفلاسفة النظريين التجريديين، كالتساؤل عن ماهية الكون، والعدم، وما قبل الحياة، وما بعد الموت، وما وراء الوجود، والمصير، والفناء وغير ذلك. لأنه ينبغي قبل أن «نوضح أحجية ما هو الكون أن نوضح سؤالا أسبق ما هو الإنسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ماهية الكون»، كما قال العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده.

وبهذا ننتقل من عهود الإيمان بالأوهام والخوارق الى عهد الوضوح والمعرفة والثقة والحقائق واليقين وتكون المعرفة هي فعلاً أم جميع الحقائق الصحيحة.

*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى