أولى

شيرين أبو عاقلة تدفن من جديد

 سعادة مصطفى أرشيد*

ارتكبت الحكومة (الإسرائيلية) وجيشها خلال حربها على غزة في كانون الأول 2008 جرائم بالغة الخطورة بحق المدنيين الغزيين لا بالمعنى القومي ـ الوطني والإنساني فحسب، وإنما بالمعنى الحقوقي أيضاً، نقلت الصحافة العالمية والقنوات الإخبارية الفضائية تفاصيل لمشاهد الجرائم وتمّ تداولها عبر العالم مما تسبّب في قيام حالة رأي عام عالمي، شعبي وحكومي ضدّ دولة الاحتلال وجرائمها؛ الأمر الذي اضطر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لعقد اجتماع طارئ وتشكيل لجنة تقصي حقائق عُرفت لاحقاً باسم رئيسها القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون.

ثلاثة أشهر من العمل المتواصل بذل فيها غولدستون وفريقه أقصى الجهد وفي ظروف صعبة استطاعوا في نهايتها تقديم تقرير مفصل وعلى قدر من الدقة والموضوعية، عدّد فيه أعداد الشهداء والجرحى من المدنيين، وفصّل أحداث الدمار التي أحدثها القصف بحق المدارس والبيوت والبنية التحتية، والشكل الذي تمّ فيه قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء.

كذلك أكد أنّ الجيش (الإسرائيلي) استعمل في قصفه أسلحة محرّمة دولياً منها القنابل الفوسفورية والقنابل المسمارية، وأنّ هناك شبهات في انه استعمل اليورانيوم المنضّب وغير المنضّب، ومما جاء في خلاصة التقرير أنّ (إسرائيل) ارتكبت كثيراً من الفظائع بحق المدنيين ومارست انتهاكات فاضحة وخطيرة للقانون الدولي الإنساني مما يصل إلى درجة يمكن اعتبارها جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.

كما اشتكى التقرير من أنّ الحكومة (الإسرائيلية) عملت على إعاقة عمل اللجنة، وحالت دون وصولها إلى أماكن عديدة ورفضت التعاون معها، فيما أشاد التقرير بإيجابية الطرف الفلسطيني.

مثل تقرير اللحنة ضربة من الدرجة الأولى لدولة الاحتلال وأثار بالغ قلقها وقلق حماتها في الغرب، فالتقرير إنْ تمّت متابعته من شأنه اقتياد حكومة الاحتلال وقادة جيشها إلى محكمة جرائم الحرب أسوة بما حدث مع قادة الصرب في يوغسلافيا السابقة.

اثر تقديم التقرير للجنة حقوق الإنسان لعرضه على التصويت، تمّ تأجيل ذلك وحسب مصادر المنظمة الدولية وغير المنظمة الدولية أنّ ذلك كان بطلب من السلطة الفلسطينية مما أثار انتقادات واسعة فلسطينية ودولية للسلطة، ونفت السلطة علاقتها بالتأجيل وأنحت باللائمة على آخرين، ولكن بين أخذ وردّ وقال وقيل تمّ التصويت لصالح التقرير في أيلول 2009.

مع أنّ ذلك مثل فرصة بالغة الأهمية لإدانة الاحتلال وضبط سلوكه إلا أنّ السلطة الفلسطينية لم تقم بعمل جادّ لتحويله إلى قضايا مرفوعة إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وكالعادة ذهب الموضوع في طوايا النسيان إلى أن عاد بعض منا لاستذكاره عند صدور التقرير (الإسرا ـ أميركي) بخصوص الرصاصة التي قتلت الشهيدة شيرين أبو عاقلة.

احتلت شيرين أبو عاقلة جزءاً من الذاكرة الجمعية عند متابعي الشأن الفلسطيني بغضّ النظر عن موقفهم من قناة “الجزيرة” الذي كشفه الربيع الزائف، وذلك على مدى ربع قرن من الزمان من عملها في تلك الفضائية، إلى أن اخترقت خوذتها ورأسها الرصاصة (الإسرائيلية) اللئيمة التي أوْدت بها، كان اغتيال شيرين حدثاً فارقاً وخبراً لم تنقله إلينا شيرين فقد كانت هي الخبر، ومثلت الجريمة فاجعة حتى على المستوى الشخصي لكثير من معجبيها ومتابعيها الذين ألفوا براعتها الصحافية وشخصيتها الخجولة ووجهها الطفولي البريء.

اعتقل الاحتلال إثر الاغتيال عدداً من الناشطين في مخيم جنين محاولاً إلقاء تبعة الاغتيال عليهم، ولكن تلك المحاولات لم تكن مجدية، وأصدر النائب العام الفلسطيني بياناً يؤكد مسؤولية الاحتلال عن الاغتيال رافضاً إعطاء الرصاصة إلى الجانب (الإسرائيلي) الذي كان يلحّ على ذلك.

لكن منذ أيام تمّ تسليم الرصاصة للأميركان بقرار ظهر أنه سياسيّ وليس قضائياً، وبعدها بساعات أعلن (الإسرائيلي) أنّ الرصاصة قد أصبحت في حوزته وأنّ فحصها سيكون في المختبرات الجنائية (الإسرائيلية) وبحضور أميركي وهذا ما حصل بالفعل.

لم يكن التقرير الذي نشر لاحقاً تقريراً مخبرياً جنائياً بالمعنى الفني المهني، ولم يطابق بين الرصاصة والبنادق (الإسرائيلية) أو تلك المشتبه بها، وإنما جاء تقريراً سياسياً وصفياً تحدث عن الظروف التي كانت في مخيم جنين وقتها، وعن أنّ الجندي قد يكون ارتبك ولم يحسن التصرف، وهذا ليس من مسؤولية المختبر الجنائي، صدر التقرير من قبل الأميركان ولكن الذي صاغه كان (الإسرائيلي).

لاحقاً نشر (الإسرائيلي) أنباء حول صفقة تمّت بين السلطة وبينه برعاية أميركية وتحضيراً لزيارة بايدن عناصرها تسليم الرصاصة وصدور مثل هذا التقرير، ولا ضير من رفضه قولاً أو إدانته ببيان، مقابل السماح للسلطة بالانتقال من نظام الانترنت من 3G إلى 4G، وبأن يسمح للموظفين الفلسطينيين بالتواجد شكلياً على معبر أريحا، بالطبع هذا برسم السلطة التي تستطيع تكذيب الخبر.

في المرة الأولى تمّ دفن جثمان شيرين الطاهر بمراسم لائقة وجنازة حاشدة، أما في المرة الثانية فقد تمّ دفن قضيتها العادلة بصمت وهدوء، سوف تبقى ذكراها وسنذكرها في المناسبات، كما نذكر تقرير غولدستون.

 لم ينفع شيرين أبو عاقلة براءتها ولا أنها مواطنة أميركية، كما لم ينفعها أنها صحافية أو سيدة وحتى أنها مسيحية، طالما كان الطرف الآخر هو (إسرائيل).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى