أولى

بايدن يزورُ الكيانَ سياسياً وبيتَ لحمٍ دينياً

 

} د. مصطفى يوسف اللداوي

يكذب الفلسطينيون على أنفسهم إذا ظنوا أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن قام بزيارة دولةٍ لثلاث دولٍ، والتقى خلال زيارته التي استغرقت أربعة أيامٍ، قادتها واجتمع مع مسؤوليها، وساوى بينهم في القدر، وعدل بينهم في الأوقات المخصصة لكلّ منها، وذلك خلال زيارته الأولى إلى منطقة الشرق الأوسط، منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، التي قرّر فيها أن يزور الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى مدينة بيت لحم، التي التقى فيها قيادة السلطة الفلسطينية.

إلا أنّ نظرةً فاحصةً إلى برنامج الزيارة، وتحليلاً موضوعياً للخطابات والتصريحات التي صدرت قبل وخلال الزيارة، تؤكد أنّ زيارة الرئيس الأميركي إلى الكيان الصهيوني والسعودية هي زيارة سياسية بامتياز، وتحمل معها أبعاداً أمنية وعسكرية واقتصادية وربما نفسية، بينما تصنّف زيارته إلى السلطة الفلسطينية من جهةٍ أنها زيارة مجاملة، فترتها قصيرة، ومدة لقاء رئيس السلطة فلسطينية محدودة جداً، وحتى  يزول عنه الحرج، فهي من جهةٍ أخرى زيارة إلى الأماكن المقدسة المسيحية، حيث تقرّر أن يكون اللقاء في مدينة بيت لحم المقدسة لدى مسيحيّي العالم، التي إليها يحجّون من كلّ مكانٍ، وبذا تكون زيارةً دينيةً.

الحقيقة أنّ زيارة الرئيس الأميركي إلى مناطق السلطة الفلسطينية زيارة مهينة، وهي صفعة قاسية، وقلة احترام وتقديرٍ للشعب الفلسطيني وقيادته، فالفلسطينيون أرفع قدراً وأعلى مكانةً، وأكرم نفساً وأنبل خلقاً من أن يقبلوا برئيسٍ يفتتح زيارته إلى المنطقة، بتصريحٍ فجّ وقحٍ يقول فيه، «ليس بالضرورة أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً».

ثم ينهال مديحاً للكيان العنصري الذي يدعمه، ويستعرض الأعطيات التي جهّزها، والوعود التي قطعها، والمشاريع التي هيّأها، والمساعدات التي قرّرها، والهبات التي قدّمها، والهدايا التي أحضرها، والآفاق التي سيفتحها، والمستقبل الذي يعد به، والتفوّق الذي يعمل عليه، والدمج الذي يحلم به، والحلف الذي يتطلع إليه، وحقول النفط والغاز التي يسيل لعابه عليها ويطمع فيها.

لا أظنّ أنّ فلسطينياً يرحب بهذه الزيارة أو يأمل فيها خيراً، أو يرجو منها انحيازاً أميركياً للحق الفلسطيني أو استنكاراً للعدوان «الإسرائيلي»، فهذه الزيارة ليست لنا، وهي ليست لأجلنا، بل هي ضدّنا، وتعمل على نسج خيوط التآمر علينا، وتريد من العدو أن يستفرد بنا، ويقرّر بنفسه ما يشاء بحقنا، فالقضية الفلسطينية التي تخلى عنها بعض العرب، وأعلنوا البراءة منها، لم تعد لها الأولية أو الصدارة، ولم يعد لها حظٌ من الاهتمام أو الرعاية، بعد أن طغت عليها همومٌ أخرى، وتقدّمت عليها المصالح وعجلت بها المخاوف.

ربما لم أسمع تصريحاً فلسطينياً، رسمياً أو شعبياً، سلطةً أو معارضةً، يشيد بزيارته ويعدّد مزاياها، أو يحرص عليها ويترقب وصوله، ليقينهم أنّ ما بعد وصوله سيكون أسوأ بكثير مما قبلها، فقد حانت عنده اليوم ساعة الحقيقة، وانتهى لديه وقت المراوغة والكلام المعسول، والشعارات الانتخابية والوعود الخلبية، وأصبح ملزماً بالكشف عن حقيقته والإعلان عن سياسته.

فما في جعبته لا يختلف كثيراً عما كان يصرح به سلفه دونالد ترامب ويعلن عنه، فإن كان الثاني أهوج أرعن، فقد كان صريحاً وواضحاً، أما الأول وهو الزائر، فهو عجوزٌ حكيمٌ، ومجرّبٌ ومحنّكٌ، إلا أنه ناعم الكلام خشن الأفعال، ماكرٌ كالثعلب ومفترسٌ كالذئاب، ظاهره ليس كباطنه، وحقيقته ليست كصورته.

الفلسطينيون جميعاً دون استثناء يرفضون هذه الزيارة، ولا يرون فيها منفعةً يأملونها أو ضرراً يرجون صرفه عنهم، حتى أولئك الذين يؤمنون بحلّ الدولتين، ويتخذون المفاوضات سبيلاً والحوار طريقاً للوصول إلى الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، قد رفضوا الزيارة، ونعتوها بأشدّ عبارات النقد والاستنكار، بعد أن قرأوا «المكتوب» من عنوانه، ورأوا أنّ الضيف القادم إليهم بعد أكثر من سنةٍ على توليه الرئاسة في أميركا، قد تخلى عن كلّ وعوده السابقة التي أعلن عنها ونادى بها، فلا هو استنكر الاستيطان ولا دعا إلى وقفه، بل وافق على أن يقيم في مدينة القدس في فندقٍ فلسطينيٍ مغتصب، تعود ملكيته إلى الأوقاف الإسلامية الفلسطينية، في ما بدا أنه استفزازٌ مقصودٌ، واسترضاءٌ لـ «إسرائيل» معدّ ومتفقٌ عليه.

ولعلّ حديثه الهامس بصوتٍ مغمغم لا يكاد يسمع، عن إيمانه بحلّ الدولتين، وأنه قد لا يتحقق في الأفق القريب، أوضح نعيٍ وأصدق تصريحٍ للسياسة الأميركية أياً كان ساكن البيت الأبيض، أنهم يكذبون عندما يدّعون أنهم يؤيدون حلّ الدولتين، ويسعون إلى إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحمايتها.

فما قاله الرئيس الأميركي يؤكد أنّ الضابط في الحلّ هو الكيان الصهيوني، الذي يريد الأرض كلها والبحر والسماء، وكلّ خيرات الأرض والكنوز الدفينة تحت مياه البحر، ولا يريد له فيها شريكاً أو معه جاراً، وكأن هذه الأرض قد كتبت له وخلقت باسمه، وما كان فيها شعبٌ فلسطينيٌ قبله، ولا أمةٌ عربيةٌ سكنتها وعمرتها، وبنت فيها حضارتها ونشرت فيها لغتها وعلومها.

لعلّ زيارة الرئيس الأميركي غير المرحب بها إلى منطقتنا، توحد الشعب الفلسطيني وتجمع كلمته، وتدفعه إلى التمسك بحقوقه والتراجع عن كلّ الوعود الكاذبة والأماني المعسولة، فما تعدنا به الإدارات الأميركية ليس إلا سراباً، كلما اقتربنا منه انكشفت حقيقته، وظهرت خسّته، وبضاعتهم كاسدة، يعيدون بيعها لنا وعرضها علينا كلّ سنةٍ نفسها، دون أن يكبّدوا أنفسهم عناء تغييرها أو تحسين صورتها.

أما شعبنا الفلسطيني الذي يدرك حقيقتهم ويعرف سياستهم، ولا يأمن لهم ولا يثق فيهم، فهو رغم ظروفه الصعبة، ليس في حاجةٍ إلى فتاتٍ يُلقى إليه من موائد الظالمين اللئام، ولن يكون سعيداً بدعمٍ به السمّ مدسوسٌ يقدّم إلى المستشفيات والمؤسسات، وإلى الهيئات والجمعيات، فالفلسطينيون وستعرفون، أنه شعبٌ حرٌ أصيلٌ أبيٌّ، شريفٌ نبيلٌ، فلا رغيف خبزٍ من جوعٍ يسكته، ولا قميص من عريٍ يستره، اللهم إلا وطناً حراً، وأرضاً محررةً، وعودةً إليه كريمةً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى