أخيرة

نافذة ضوء

كلامٌ للتاريخ

 يوسف المسمار*

للإنسانالفرد في الحياة اتجاهان لا ثالث لهما، ويجب عليه أن يختار أحد الاتجاهين: اتجاه المعرفة واتجاه رفض المعرفة. فإذا اختار اتجاه المعرفة نما وتطوّر وارتقى، وإذا اختار رفض المعرفة انشلّ وتقهقر وانحطّ وانقرض. ولذلك صُنّف الناس في خانتي الواعين المستنيرين، والجاهلين الجاهليين.

آفاق الواعين المستنيرين منفتحة بحيث تمكّنهم من الارتقاء والتسامي الى ما فوق فوق درجات الملائكة.

وأعماق الجاهلين الجاهليين مهترئة بحيث يمكن أن تحطّ من شأنهم وتهبط بهم إلى ما دون دون دركات البهائم.

 الواعون المستنيرون لا يكتفون بمألوف مهما توهّموا أنه مفيد، ولا يرضون براهن مهما أشبع غرائزهم، ولا يقنعون ولا يستسلمون لشقاء مكتوب مهما حلّ بهم، بل يرفضون المألوف الطالح، ويثورون عليه، وينطلقون من المألوف الصالح ويتجاوزونه الى ما هو أصلح. وينبذون الراهن السيئ ولا يقبلون إلا براهن نافع ويتخطونه الى ما هو أنفع وأكثر سعادة. ويطوّرون المكتوب القبيح السيئ ليكتبوا ما ينبغي أن يُكتب وما تطمح الى كتابته نفوسهم العاشقة الى كل جميل وراقٍ.

 أما الجاهلون الجاهليون، فإنهم عبيد كل مألوف متخلف. ورهائن كل راهن رديء. ودُمى كل مكتوب بغيض ويرفضون الخروج من جحور جاهليتهم العفنة الى نوافذ الهواء المنعش ومشارف نور الحياة المطلة على بهاء نور الألوهة.

كذلك للإنسانالمجتمع اتجاهان: اتجاه الى الوراء والتخلف، واتجاه الى الأمام والتقدم. وعلى هذا الأساس صُنفت المجتمعات بين مجتمعات بدائية متخلفة، ومجتمعات حضارية راقية.

المجتمعات الحضارية الراقية هي تلك التي انطلقت بوعي وإيمان وعزيمة في سبيل الخروج على المألوف وابتكار كل ما هو أفضل من الذي اعتادت عليه، وإنجاز كل ما يمكن أن يُحسّن مستوى حياتها، ويوفر تقدّمها ورقيها ورفاهيتها.

لقد ارتقت هذه المجتمعات الحضارية بأبنائها الواعين المتنورين المستنيرين وارتقوا بها، وتقدّمت بهم وتقدموا بها، وتحرّرت إرادتها بهم فكانوا بها أحراراً.

أما المجتمعات البدائية المتخلفة، فقد استسلمت للواقع المفروض المريض، وخضعت لكل غاز ومتسلط، واكتفت بعيش الأنذال على موائد اللئام وفضلات المستكبرين وارتضت العيش مستسلمة للذين يستخدمونها ويرمونها عندما لم تعد صالحة للاستخدام.

هكذا نجد العلاقة الوثيقة بين مجتمع الحضارة الذي يتميّز بالنمو المعرفي والتقدمي وبين أبنائه الواعين المتنورين، وهكذا نفهم كيف تنبثق العقائد الجميلة في مثل هذا المجتمع وتنتشر في جميع أفراده وتنتقل من جيل الى جيل، وتتطوّر وترتقي وتزداد رونقاً وجمالاً كلما مرّ عليها الزمان وتتالت العصور، فتتلقفها الشعوب التائقة الى الخير والجمال والسعادة وتسير بهديها الى شواطئ الهناء.

وهكذا نفهم في الوقت نفسه الارتباط الشديد بين المجتمع البدائي المتخلف الذي يتميّز بجهالة رهيبة تجعله ينفر من كل معرفة جيِّدة جديدة تخرج عن عاداته وتقاليده البدائيّة التي كبلته بكل ما يعطل انعتاقه من تلك التقاليد الفاسدة، ونفهم أيضاً كيف ينحصر المجتمع المتخلف ويستمر حبيس عقائد جامدة تصبح وجداناً عاماً لجميع أبنائه وتتراكم مفاهيمها التخلّفية التافهة جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، بحيث يبتعد بها الزمان في تقهقر يستحيل معه رؤية روعة عقائد الحق والخير والجمال.

 واذا كان المجتمع البدائي المتخلف قد اعتاد حياة التخلف والويلات عبر الجهالات المتراكمة مع الزمان، فإن أعظم كوارث الويلات التي تحل بالمجتمع المعرفي الحضاري هي في سقوطه من شواهق المعرفة والرقي والأخلاق الى دركات الجهالة والانحطاط والمثالب فيتبعثر أبناؤه بين الرقيّ والانحطاط، وبين التقدم والتخلف، وبين المعرفة والجهل، وبين الفضائل والمفاسد، فتتفسخ ذات المجتمع، ويتمزق وجدانه الاجتماعي، وتنطفئ روحيّته الواحدة وتتبلبل مفاهيمه، وتتضارب عقائده، وتتصادم تقاليده وعاداته، ويتقاتل ويقتتل أبناؤه فيفقد بكل هذه الويلات قوة الحياة النامية التي كانت فيه، والتي كانت تدفعه الى النمو والارتقاء والمزيد من القوة ليصبح لقمة سائغة أمام أية موجة غزو سواء أتت من مجتمع بدائيّ متخلّف أو من مجتمع حضاريّ متقدّم.

 وأكثر من ذلك، فإنه يتآكل من داخله ويهترئ ولا يحتاج بعد ذلك إلا لمن يساعد على دفنه أو إحراقه أو تذويبه خوفاً من عدواه وانتشار جراثيمه وموبوءاته.

*باحث وشاعر قوميّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى